آخر المواضيع

الأحد، 3 نوفمبر 2013

متى يجب السعي إلى صلاة الجمعة ؟ ومتى يستحب السعي إليها ؟



كتبه : أ. عبد الجليل مبرور
المبْحَث الأول: وقت وجوب السعي إليها:
اختلفَ العلماء في وقت وجوب السعي إلى الجمعة، ومحَلُّ الخلاف فيمن مَنْزله قريب، أمَّا مَن مَنْزله بعيد فيلزمه السَّعي في وقت يدركها كلَّها؛ لأنَّه ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.


وقيل: يجب السَّعي إليها بالأذان الأول، وهو مذهب الأحناف[27].

وقيل: يجب السعي إليها بالأذان الثاني، وهو قول جمهور العلماء من المالكية[28]، والشافعية[29]، والحنابلة[30].

أدلة القائلين بوجوب السعي بالأذان الأول:
 استدلوا بعُموم قَوْلِه - جلَّ وعلا -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ[الجمعة: 9]، وبالأمر باتِّباع سنَّة الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - وما دام عثمان - رضي الله عنه - قد سَنَّ ذلك، فنحن مأمورون باتِّباعه، فصار داخلاً في عموم النِّداء.

أدلة القائلين بِوُجُوب السعي بالأذان الثاني:
 استدلوا بعموم قوله - جلَّ وعلا -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة: 9].

 عن السَّائب بن يزيد: "كان النِّداء إذا صَعد الإمام على المنبر على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبي بكر وعمر، فلمَّا كان عثمان كَثُر الناس، فزاد النِّداء الثالث على الزَّوراء"[31]، والزَّوْراء موضع بالسُّوق بالمدينة.

 قالوا: والنداء الذي كان على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو النِّداء عقيب جلوس الإمام على المنبر، فتعلَّق الحكم به دون غيره، ولا فرق بين أن يكون ذلك قبل الزوال أو بعده؛ لأنَّ الله تعالى علَّقه على النداء، لا على الوقت، ولأنَّ المقصود بهذا إدراك الجمعة.

الراجح:
الذي يظهر أن الراجح هو قول الجمهور؛ لأنَّ عموم الآية قد قُيِّد بعملِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.

المبحث الثاني: وقت استحباب السعي إليها:
اختلف العلماءُ في وقت استحباب السعي إلى الجمعة على قولين:
فقيل: يستحبُّ السعي إليها آخِرَ الساعة التي بعد زوال الشَّمس، ويكره بعد طلوع الشَّمس، وهو مذهب المالكية[32].

وقيل: يستحب السعي إليها أول النهار إلى الزوال، وهو مذهب الجمهور[33]، وهو الراجح.

مناقشة دليل مَن قال: يستحبُّ السَّعي إليها آخِرَ السَّاعة التي بعد زوال الشمس، ويُكره بعد طلوع الشمس:
 استدلُّوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن اغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة، ثم راح، فكأنَّما قرَّب بدَنَة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قَرَّب بقرة، ومن راح في الساعة الثَّالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرَّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضَرَت الملائكة يستمعون الذِّكر))[34].

 قالوا: بأنَّ الساعة تُطلَق على جزء من الزمان غير محدود، تقول: جئتُ ساعة كذا، ومن جهة أخرى فحقيقة الرَّواح إنما تكون بعد الزَّوال، والغُدوُّ يكون قبله، كما قال تعالى﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ[سبأ: 12].

 وأجاب الجمهور عن هذا كما قال الحافظ: "وقد أنكر الأزهريُّ على مَن زعم أن الرَّواحَ لا يكون إلا بعد الزَّوال، ونُقل أنَّ العرب تقول"راح" في جميع الأوقات بمعنى ذَهَب، قال: وهي لُغة أهل الحجاز، ونقل أبو عُبَيد في "الغَريبَيْن" نحْوَه.

قلتُ: وفيه ردٌّ على الزَّين بن المُنير؛ حيث أَطلق أنَّ الرَّواح لا يُستعمل في المُضي في أول النهار بوجْه، وحيث قال: إن استعمال الرواح بمعنى الغدوِّ لم يُسمع ولا ثبَت ما يدلُّ عليه.

ثم إنِّي لم أرَ التعبير بالرواح في شيء من طرُق هذا الحديث إلاَّ في رواية مالك هذه عن سُمَي، وقد رواه ابن جريج عن سُمي بلفظ"غدا"، ورواه أبو سَلمة عن أبي هريرة بلفظ: ((المتعجِّل إلى الجمعة كالمُهْدِي بدنة))؛ الحديث، وصحَّحه ابن خزيمة، وفي حديث سَمُرة"ضرَب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مَثَل الجمعة في التَّبكير كناحر البدنةِ"؛ الحديث، أخرجه ابن ماجه، ولأبي داود من حديث عليٍّ مرفوعًا: ((إذا كان يوم الجمعة غدَت الشياطين براياتها إلى الأسواق، وتغدو الملائكة فتجلس على باب المسجد، فتكتب: الرَّجل من ساعة، والرجل من ساعتين))؛ الحديث.

فدلَّ مجموعُ هذه الأحاديث على أن المراد بالرَّواح الذهاب، وقيل: النكتة في التعبير بالرَّواح الإشارة إلى أن الفعل المقصود إنما يكون بعد الزَّوال، فيُسمَّى الذاهب إلى الجمعة رائحًا، وإن لم يجِئْ وقت الرَّواح، كما سُمِّي القاصد إلى مكة حاجًّا، وقد اشتدَّ إنكارُ أحمدَ وابنِ حبيب من المالكيَّة على ما نُقِل عن مالك من كراهية التَّبكير إلى الجمعة، وقال أحمد: هذا خلافُ حديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"[35].

 قالوا: لو كان ذلك المُراد لاَخْتلف الأمر في اليوم الشَّاتي والصَّائف؛ لأنَّ النهار ينتهي في القِصَر إلى عشر ساعات، وفي الطُّول إلى أربع عشرة.

 واستدلوا أيضًا بحديث أبي هريرة - رَضي الله عنه - قال: قال النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا كان يوم الجمعة وقفَتِ الملائكة على باب المسجد يَكتبون الأوَّلَ فالأوَّل، ومَثل المُهَجِّر كمَثل الذي يهدي بدنة، ثم كالذي يُهدي بقرة، ثم كبشًا، ثم دجاجة، ثم بيضة، فإذا خرَج الإمام طَوَوْا صحُفَهم، ويستمعون الذِّكر))[36]، فجعل البدنة بالتَّهجير، والتهجير إنما هو الإتيان بالمهاجرة، وإنما يكون ذلك بعد الزَّوال.

 وأجيب كما قال الحافظ: "وأجيب بأن المراد بالتَّهجير هنا التبكير، كما تقدم نقْلُه عن الخليل في المواقيت، وقال ابن المُنير في "الحاشية": يَحتمل أن يكون مُشتقًّا من الهِجِّير - بالكسر وتشديد الجيم - وهو مُلازمة ذِكْر الشيء، وقيل: هو من هَجْر المَنْزل، وهو ضعيف؛ لأن مصْدَره الهَجْر لا التَّهْجير.

وقال القرطبي: الحقُّ أن التهجير هنا من الهاجِرَة، وهو السَّير وقت الحَرِّ، وهو صالِحٌ لما قبل الزوال وبعده، فلا حُجَّة فيه لمالك، وقال التوربشتي: جعَل الوقت الذي يَرتفع فيه النهار ويأخذ الحرُّ في الازدياد من الهاجرة تغليبًا، بخلاف ما بعد زوال الشمس، فإنَّ الحرَّ يأخذ في الانحِطاط، ومما يدلُّ على استعمالهم التهجير في أول النهار ما أنشَد ابنُ الأعرابي في "نوادره" لبعض العرب: يُهَجِّرُونَ بَهَجِيرِ الفَجْرِ".

واحتجُّوا أيضًا بأنَّ الساعة لو لَم تَطُل لَزِم تساوي الآتين فيها، والأدلَّة تقتضي رجحان السَّابق، بخلاف ما إذا قُلنا: إنَّها لحظة لطيفة، والجوابُ ما قاله النَّووي في "شرح المهذَّب" تبعًا لغيره -: إنَّ التساوي وقَع في مُسمَّى البدنة والتفاوت في صفاتها، ويؤيِّده أنَّ في رواية ابن عجلان تكرير كلٍّ من المُتقرَّب به مرَّتين؛ حيث قال: ((كرجل قَدَّم بدنة، وكرجل قدَّم بدنة))؛ الحديث، ولا يَرد على هذا أنَّ في رواية ابن جريج قولَه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وأوَّل الساعة وآخِرها سواء))؛ لأنَّ هذه التَّسوية بالنسبة إلى البدنة كما تقرَّر.

واحتَجَّ من كره التبكير أيضًا بأنه يَستلزم تخَطِّي الرِّقاب في الرُّجوع لمن عرَضَت له حاجة، فخرج لها ثُم رجع، وتُعُقِّب بأنه لا حرج عليه في هذه الحالة؛ لأنَّه قاصد للوُصول لحقِّه، وإنما الحرج على مَن تأخَّر عن المجيء ثم جاء فتخطى، والله - سبحانه وتعالى - أعلم[37].

اختلف الجمهور في المراد بالساعات من أول النهار، هل أوَّلها من طلوع الفجر، أو من طلوع الشمس؟

قال الحافظ ابن رجب في "الفتح": "قالت طائفة: أوَّلها من طلوع الفجر، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد، واستدلوا بقوله: ((إذا كان الجمعة، كان على أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس الأول فالأول)).. الحديث، كما سيأتي ذِكْره - إن شاء الله تعالى - وظاهره: أنَّ ذلك يكون بعد طلوع الفجر.

وقالتْ طائفة: أوَّلها مِن طلوع الشمس، وحُكِي عن الثوري وأبي حنيفة ومحمد بن إبراهيم البوشنجي، ورجَّحه الخطَّابي وغيره؛ لأنَّ ما قَبْله وقتٌ للسَّعي إلى صلاة الفجر، ورجَّح هذا القولَ عبدُالملك بن حبيب المالكي، وهؤلاء حمَلُوا السَّاعات على ساعات النهار المعهودة، وهو الظاهر المتبادِر إلى الفهم.

وأما ذِكر الرواح، فعنه جوابان:
أحدهما: أنه لمَّا كان آخِرُ الساعات بعد الزَّوال، وهو رَواح حقيقي، سُمِّيت كلُّها رواحًا، كما يُسمَّى الخارج للحجِّ والجهاد حاجًّا وغازيًا قبل تلَبُّسِه بالحجِّ والغزو؛ لأنَّ أمره ينتهي إلى ذلك.

والثاني: أن الرَّواح هنا أُريدَ به القصد والذهاب، بغضِّ النَّظر عن كونه قبل الزوال أو بعده.

قال الأزهري وغيرُه: الرَّواح والغُدوُّ عند العرب يُستعملان في السَّير أيَّ وقت كان، من ليل أو نهار، يُقال: راح في أول النهار وآخِره، وغدا بمعناه.

وأما التهجير، فيُجابُ عنه، بأنه استُعمل في هذا المعنى بمعنى التبكير - أيضًا - لا بمعنى الخروج في الهاجرة، وقيل: إنه ليس من الهاجرة، بل من الهجرة، والمراد بها: هَجْر الأعمال الدنيوية للسعي إلى الجمعة.

وقد دلَّ على استحباب التبكير من أول النهار حديثُ أَوس بن أوس، عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من اغتسل يوم الجمعة وغَسَّل، وبَكَّر وابتكر، ودنا واستمع، كان له بكل خُطوة يخطوها أَجْر سنَةٍ صيامها وقيامها))؛ خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والتِّرمذي والنَّسائي وابن ماجه وابن حبان في"صحيحه"، وحسَّنه الترمذي، وله طرق متعدِّدة، قد ذكَرْناها في "شرح الترمذي"، وفي رواية للنَّسائي: ((وغدا وابتكر))، وفي بعض رواياته: ((ومشى ولم يركب)).

وظاهِرُ الحديث: يدلُّ على تقسيم يوم الجمعة إلى اثنتي عشرة ساعة، وأنَّ الخُطبة والصلاة يقَعان في السادسة منها، ومتى خرج الخطيب طوَت الملائكة صحُفَها، ولم يُكتب لأحد فضْل التَّبكير، وهذا يدلُّ على أنه بعد الزوال لا يُكتب لأحد شيءٌ من فضل التبكير إلى الجمعة بالكلِّية.

وظاهرُ الحديث: يدلُّ على تقسيم نهار الجمعة إلى اثنتي عشرة ساعة مع طول النهار وقِصَره، فلا يكون المراد به الساعات المعروفة من تقسيم الليل والنهار إلى أربعٍ وعشرين ساعة؛ فإن ذلك يختلف باختلاف طول النهار وقصره، ويدلُّ على هذا: حديثُ جابر، عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يوم الجمعة ثِنْتا عشرة ساعة، لا يوجد مُسلم يسأل الله شيئًا إلاَّ آتاه إيَّاه، فالتمسوها آخِرَ ساعة بعد العصر))؛ خرَّجه أبو داود والنسائي بإسناد كلُّهم ثقات.

وظاهره: يدلُّ على أنَّ ساعة الإجابة جزءٌ من هذه الأجزاء الاثني عشر المتساوية في جميع فصول السُّنة، وزَعم بعض الشَّافعية: أنه ليس المرادُ بالسَّاعات في التَّبكير الأربعَ والعشرون، بل ترتيب الدَّرجات، وفضل السابق على الذي يليه؛ لئلاَّ يستوي في الفضيلة رجلان جاءا في طرَفَي ساعة.

ورَدَّ ذلك آخَرون منهم، وقالوا: مَن جاء في أوَّل ساعة مِن هذه الساعات وآخرها مشتركان في تحصيل أصل البدنة أو البقرة أو الكبش مثلاً، ولكن بدنة الأوَّل أو بقرَتَه أكْمل ممَّا للَّذي جاء في آخِرِها، وبدنة المتوسِّط متوسِّطة، وهذا هو الأقرب، وعليه يُحمل الحديث الذي خرَّجه عبدالرزَّاق، عن ابن جُرَيج، عن سُمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا كان يوم الجمعة فاغتسل أحدُكم كما يَغتسل من الجنابة، ثم غدا في أوَّل ساعة، فله من الأجر مثل الجَزُور، وأوَّل الساعة وآخرها سواء))، وذكر مثل ذلك في الثانية، والثالثة، والرَّابعة، يقول: ((أولها وآخرها سواء))، وزاد في آخِر الحديث: ((ثُمَّ غُفِر له إذا استمع وأنصت ما بين الجُمْعتين، وزيادة ثلاثة أيام))، وفي هذه الرِّواية: ذكر الغُدوّ إلى الجمعة، والغدو يكون من أول النهار"[38].


المصادر والمراجع :


[27] "الاختيار لتعليل المختار" (1 / 85) "ردّ المحتار" (3 / 38) "شرح فتح القدير" (2 / 66) "العناية شرح الهداية" (3 / 107).
[28] "الكافي" (70) "حاشية الدُّسوقي على الشَّرح الكبير" (1 / 388) "الفواكه الدَّواني" (2 / 621) "الثَّمر الداني" (182).
[29] "الحاوي الكبير" (2 / 428) "حاشية البجيرمي على الخطيب" (2 / 389).
[30] "المُغْني" (3 / 162) "الشَّرح الكبير" (5 / 245) "شرح الزَّركشي على مختصر الخرقي" (2 / 168) "المُحرَّر في الفقه" (1 / 143) "الإنصاف" (5 / 277) "شرح منتهى الإرادات" (2 / 29).
[31] البخاري (912).
[32] "مواهب الجليل" (2 / 535) "التاج والإكليل" (2 / 535) "الفواكه الدَّواني" (1 / 410).
[33] "الحاوي الكبير" (2 / 452)، "المجموع" (4 / 413)، "مُغْني المحتاج" (1 / 437)، "المُغْني" (3 / 164)، "شرح الزَّركشي على مختصر الخرقي" (2 / 169).
[34] البخاري (881) ومسلم (850).
[35] "الفتح" (2 / 369).
[36] البخاري (929) ومسلم (850).
[37] "الفتح" (2 / 370).
[38] "فتح الباري" (8 / 95).