أخذ الله تعالى على بني آدم ثلاثة مواثيق :
1- الميثاق الأول : الذي أخذه الله عليهم حين أخرجهم من ظهر أبيهم آدم ثم من ظهور بعضهم بعضاً ، وهو المذكور في قوله تعالى : ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ﴾([1]) . أو ﴿..قالوا بلى ﴾وتكون كلمة ﴿شهدنا﴾من كلام الله تعالى ، بمعنى أنه سبحانه شهد عليهم وملائكته ﴿شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ﴾.
2- ميثاق الفطرة : أنه تبارك وتعالى فطرهم شاهدين بما أخذه عليهم في الميثاق الأول ، كما قال تعالى : ﴿فأقم وجهك للدين حنيفاً * فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ﴾([2]) وهو الثابت في الصحيحين في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كل مولود يولد على الفطرة) ، وفي رواية : (على هذه الملة ، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء) وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال : قال رسول الله r : (يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم) .
3- الميثاق الثالث : وهو ما جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب تجديداً للميثاق الأول، وتذكيراً به ﴿رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾([3]) ، فالحجة قائمة على بني آدم بإرسال الرسل الذين ذكروا بذلك الميثاق لا بالميثاق نفسه إذ ذاك فهم لا يذكرونه ، فكيف يحتج سبحانه على أحد بشيء لا يذكره . وقد أيد الله رسله بالمعجزات والبراهين على صدقهم فمن أدرك هذا الميثاق وهو باق على فطرته قبله وقام به دون تردد ، ومن كان قد انحرف عن فطرته فتلك المعجزات والبراهين مع الرسل، وما لديهم من إقناع فيها الحجة الكافية عليهم إن لم يؤمنوا ، فمن وفى بالميثاق دخل الجنة وإلاّ فالنار أولى به . وأما من لم يدرك الميثاق بأن مات صغيراً قبل التكليف مات على الميثاق الأول على الفطرة فإن كان من أولاد المسلمين فهم مع أبائهم ، وإن كان من أولاد المشركين فالله أعلم بما كان عاملاً لو أدركه كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سئل رسول الله r عن أولاد المشركين فقال r : (الله تعالى إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين) ([4]) .
هذا وقد خص النبيون بميثاق رابع ، وهو المذكور في قوله تعالى ﴿وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم﴾([5]). وهو ميثاق أخذ عليهم بعد إرسالهم ، وهو يتضمن ثلاثة أشياء :
1-إقامة دينه تعالى وإبلاغ رسالته .
2-أن يؤمن كل نبي بمن بعده ولا يمنعه مكانه وما معه من الكتاب والحكمة من الإيمان بمن بعده ونصرته .
3-الإيمان بمحمد r إن أدركوه ، ووصية أمتهم بالإيمان به إن أدركوه .
وهذا الميثاق هو نفسه المذكور في قوله تعالى : ﴿وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ... ) ([6]) .
([1]) الأعراف : 172 .
([2]) الروم : 30.
([3]) النساء : 165.
([4]) اعلم أن من لم يدرك هذا الميثاق فهو أحد خمسة أنواع : أصم أو هرم أو أحمق أو من أهل الفترة أو طفل مات صغيراً .
فأما الأربعة الأولون فحكمهم مبين في حديث الأسود بن سريع وأبي هريرة : (أربعة يجتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئاً ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في فترة . فأما الأصم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً ، وأما الأحمق فيقول : رب جاء الإسلام وما أعقل شيئاً والصبيان يحذفونني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً ، وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ، ومن لم يدخلها سحب إليها) رواه أحمد وابن حبان . وصححه الألباني ، انظر صحيح الجامع الصغير ، الطبعة الأولى رقم 894. وأما الطفل ، فإن كان من أولاد المسلمين فمن أهل الجنة بغير خلاف لأنه مات على الفطرة وقد رآهم الرسول r في الجنة ، ول يرد ما يعكر على ذلك إلا ما ذكر في حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله طوبى لهذا ، لم يعمل شرًا ولم يدر به ، (أو : لم يدرِه) فقال : (أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً ، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلاً وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم) فهذا الحديث رواه أبو داود ، ورواه الإمام أحمد وطعن فيه وقال : من يشك أن أولاد المسلمين في الجنة ، وقال أيضاً : إنهم لا اختلاف فيهم ، وأما مسلم فأورده في صحيحه وقال النووي : أجمع من يعتد به علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفاً ، وتوقف بعض من لا يعتد به لحديث عائشة هذا ، وأجاب العلماء بأنه لعلّه نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع ، ويحتمل أنه r قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في هذه الجنة . اهـ .
= وأما إن كان الطفل من أطفال المشركين ففيه ثمانية أقوال ، ذكرها ابن القيم رحمه الله ورجح أنهم يمتحنون في الآخرة فمن أطاع منهم أدخله الله الجنة ومن عصى عذبه ، واستأنس لهذا بما سبق أن ذكرنا من حديث الأسود وأبي هريرة في الأربعة الذين يحتجون يوم القيامة ، قال : وهي أحاديث لم يشد بعضها بعضاً .
*وهناك قول آخر من تلك الأقوال – ولعلّه الصواب والله أعلم- وهو أنهم في الجنة . قال النووي : وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون ، واحتج هؤلاء بقوله تعالى : ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ﴾ [الإسراء :15] ، وبحديث سمرة الصريح الذي رواه البخاري في الرؤيا التي رآها عليه الصلاة والسلام ، وفي آخره : (وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة) . قال : فقال بعض المسلمين : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ فقال رسول الله r : (وأولاد المشركين) وأجابوا عن حديث : سئل رسول الله r عن الدار من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم ، فقال (هو منهم) – والحديث في الصحيحين ، وفي لفظ لهما : (هم من آبائهم) – قالوا : هذا ليس فيه أنهم في النار ، وإنما فيه أنهم تبع لآبائهم في الحكم ، وأنهم إذا أصيبوا في البيات – لا على الانفراد – لم يضمنوا بدية ولا كفارة .
وأما قوله r في الصحيحين : (الله أعلم بما كانوا عاملين) فلعله قال ذلك قبل أن يعرفه الله حكمهم– كما قالوا في حديث عائشة والله أعلم - .
وأما حديث خديجة الذي سألت فيه عن أولادها الذين ماتوا قبل الإسلام فقال لها : (إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار) . فحديث باطل لا يصح ، وقال ابن تيمية : موضوع .
انظر شرح ابن قيم الجوزية على سنن أبي داود الجزء الثاني عشر من عون المعبود ص483-493.
وقد صحح بعض العلماء حديث : (أطفال المشركين خدم أهل الجنة) .
انظر صحيح الجامع الصغير / الطبعة الأولى / حديث 1035.
([5]) الأحزاب : 7.
([6]) آل عمران : 81 .