جاء في مختصر معارج القبول :
الكلام :
فالله تعالى لم يزل متكلماً بمشيئته وإرادته بما شاء وكيف شاء بكلام حقيقي – كم
سيأتي في الحديث أنه ينادي بصوت – ويسمعه من يشاء من خلقه ، فكلامه عز وجل قول
حقيقة على ما يليق بجلاله وعظمته ، وكلامه تعالى صفة من لوازم ذاته أزلية بأزليته
، باقية ببقائه ـ ولا تنفد صفة كان متصفاً بها . فكلماته تعالى لا تنفد ، وفيما
يلي الأدلة على ما ذكرنا :
1-قال
تعالى : ﴿وكلم
الله موسى تكليماً﴾ ([1]) .
2-قال
تعالى : ﴿
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات﴾
([2]) .
3-قال
تعالى : ﴿
قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي﴾
([3])
4-قال
تعالى : ﴿
قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا
بمثله مدداً ﴾
([4]) .
5-قال
تعالى : ﴿ولو
أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله
إن الله عزيز حكيم﴾
([5]) .
قال
ابن كثير - رحمه الله تعالى- : أي ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاماً ، وجعل
البحر مداداً وأمده سبعة أبحر معه وكتبت بها كلمات الله تعالى الدالة على عظمته
وصفاته وجلاله لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحر ولو جاء أمثالها مدداً .
6-قال
رسول الله r : (يقول الله
تعالى : يا آدم ، فيقول : لبيك وسعديك فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من
ذريتك بعثاً إلى النار ) .
رواه
البخاري في صحيحه ، وفيه – تعليقاً عن جابر – عن عبد الله بن أنيس-رضي الله عنهما-
قال : سمعت رسول الله r يقول : (يحشر
الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان
) .
*القرآن
كلام الله تعالى منزل غير مخلوق :
فالقرآن
كلامه تعالى حقيقة ، حروفه ومعانية ، وليس كلامه الحروف دون المعاني ولا المعاني دون
الحروف ، قال تعالى : ﴿فأجره
حتى يسمع كلام الله﴾
([6])
فالسمع
مخلوق والمسموع غير مخلوق ، وصوت القارئ مخلوق ولكن المتلو غير مخلوق والكتابة
مخلوقة والمكتوب غير مخلوق .
أما
قوله تعالى : ﴿إنه
لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر ...﴾
([7]) فالمراد من إضافة
القول إليه عليه الصلاة والسلام هو التبليغ ، لأن من حق الرسول r أن يبلغ عن المرسل ، لا أن القرآن كلام الرسول ، وقد بين الله
تعالى ذلك بقوله بعد ذلك : ﴿تنزيل
من رب العالمين﴾
([8]) ، ومثل ذلك
إضافته إلى جبريل عليه السلام في سورة التكوير : ﴿إنه
لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين﴾
([9]) فهذه الإضافة
كذلك باعتبار تبليغه القرآن لمحمد r وكل عاقل يفهم
ذلك فكيف يكون القرآن قول محمد r ومرة قول جبريل
؟! بل هو قوله تعالى خرج منه ، وهو قول جبريل ومحمد r بعد ذلك باعتبار
التبليغ . ولأن القرآن خرج منه تعالى فيستحيل أن يكون مخلوقاً ، لأنه محالٌ أن
يكون شيء منه تعالى مخلوقاً .... فالقرآن كلام الله ؛ وكلام الله صفته تعالى غير
مخلوقة([10]).
*حكم
من قال بخلق القرآن :
انعقد
إجماع سلف الأمة على تكفير من قال بخلق القرآن ، فمن قال بذلك استتيب فإن تاب وإلا
قتل مرتداً بعد إقامة الحجة عليه .
-قال
الإمام أحمد : من قال : القرآن مخلوق ، فهو عندنا كافر .
-وقال
ابن المبارك : من قال : القرآن مخلوق ، فهو زنديق .
-وقال
سفيان بن عيينة : من قال : القرآن مخلوق ، فهو كافر ، ومن شك في كفره فهو كافر .
-وسئل وكيع عن ذبائح الجهمية –وذلك أنهم يقولون بخلق القرآن
– فقال : لا تؤكل، هم مرتدون .
*أصل
القول بخلق القرآن .
-مصدر
ذلك لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي r ([11]) ، وأخذ عن هذه
الباعة ابن أخته طالوت وعن طالوت بيان بن سمعان وعن بيان الجعد ابن درهم في أيام
بني أمية ، فطلبه بنو أمية فهرب في الكوفة وسكنها ولقيه هناك الجهم بن صفوان حيث
أخذ عنه ذلك ولم يكن له كثير أتباع غيره .
-ولم
يشتهر القول بخلق القرآن أيام الجعد حيث أن أمير الكوفة خالد بن عبدالله القسري
سرعان ما قتله حيث خطب يوم عيد الأضحى بالكوفة ثم قال : أيها الناس ضحوا تقبل الله
ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ، ولم
يكلم موسى تكليماً ، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً . ثم نزله فذبحه في
أصل المنبر ، وذلك سنة 124هـ . روى ذلك البخاري في كتاب خلق أفعال العباد .
-وأول
ما اشتهر القول بخلق القرآن في آخر عصر التابعين على يد جهم ابن صفوان ، وكان
ملحداً زنديقاً لا يثبت أن في السماء رباً ولا يصف الله بشيء مما وصف به نفسه ،
وينتهي قول إلى جحود الخالق ، ترك الصلاة أربعين يوماً وهو يزعم أنه يرتاد ديناً ،
ولما ناظره البعض في معبود قال : هو هذا الهواء في كل مكان ، وافتتح مرة سورة طه
فلما أتى على هذه الآية : ﴿الرحمن
على العرش استوى﴾
([12]) قال : لو وجدت
السبيل إلى حكمها لحككتها ، ثم افتتح سورة القصص فلما أتى على ذكر موسى جمع يديه
ورجليه ثم رفع المصحف ثم قال : أي شيء هذا ذكره ها هنا فلم يتم ذكره ، وذكره ها
هنا فلم يتم ذكره ... إلى آخره من هذه الكفريات الدالة على سوء اعتقاده . وذبحه
سالم بن أحوذ بأصبهان وقيل بمرو .
-وأخذ
هذا المذهب عن الجهم : بشرُ بن أبي كريمة المريسي شيخ المعتزلة وأحد من أضل
المأمون وجدد القول بخلق القرآن ، ويقال : إن أباه كان يهودياً ، ومات سنة 128هـ ،
وعن بشر أخذه قاضي المحنة أحمد بن أبي دُؤاد وأعلن به وحمل السلطان على امتحان
الناس بالقول بخلق القرآن وعلى أن الله لا يرى في الآخرة ، وكان بسببه ما كان على
أهل الحديث من الفتنة ، ومات سنة 240هـ .
*اللفظية
وحكمهم :
-اللفظية
هم الذين يقولون لفظي بالقرآن مخلوق .
أما
السؤال الذي يسأله البعض : هل لفظي بالقرآن مخلوق أم لا ؟ فهذا السؤال بدعة ، ولا
يجاب عنه بنفي ولا إثبات لأن اللفظ يتركب من شيئين :
الأول
: الملفوظ به وهو القرآن وهو كلام الله ليس فعلاً للعبد ولا مقدوراً له .
والثاني
: التلفظ وهو فعل العبد وكسبه وسعيه .
-فمن
قال لفظي بالقرآن مخلوق جعل كلامه تعالى مخلوقاً لأنه داخل في اللفظ ، ومن هنا
اشتهر عن السلف كأحمد بن حنبل وجماعة من أهل الحديث أن اللفظية جهمية . ومن قال :
لفظي بالقرآن غير مخلوق ، كان مبتدعاً بدعة من بدع الاتحادية([13]) حيث أن تلفظ
العبد الذي هو فعله داخل في اللفظ ، فهذا
المبتدع خلط المخلوق بالخالق وجعل تلفظ العبد الذي هو فعله غير مخلوق ،
ولو كان الصوت هو نفس المتلو المؤدي به كما يقوله أهل الاتحاد لكان كل من سمع
القرآن من أي تالٍ وبأي صوت كليم الرحمن ، فلا مزية لموسى على غيره ....
*الواقفة
وحكمهم :
الواقفة
هم الذين يقولون في القرآن لا نقول هو كلام الله ولا نقول مخلوق .
قال
الإمام أحمد رحمه الله تعالى : من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي - لأنه في حقيقة
الأمر لم يؤمن بأن القرآن منزل ومن كلامه – تعالى ومن كان لا يحسنه بل كان جاهلاً
بسيطاً فهو تقام عليه الحجة بالبيان والبرهان فإن تاب وآمن بأنه كلام الله تعالى
غير مخلوق و إلا فهو شر من الجهمية .
*الطوائف
المخالفة لأهل السنة في كلام الله تعالى([14]) :
1-الاتحادية
القائلون بوحدة الوجود : ذهبوا إلى أن كل كلام في الوجود كلام الله حقه وباطله ، وحسنة وقبيحة ، والسب والفحش والشتم وأضداده كله عين
كلام الله تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ؟
2-الفلاسفة
: ويقولون أن كلامه تعالى فيض فاض منه على نفس زكية شريفة فأوجب لها ذلك الفيض
تصورات وتصديقات بحسب ما قبلته منه ، فتتصور الملائكة تخاطبها وتسمع خطابهم ، وهو
عندهم كلام الله ولا حقيقة له وإنما ذلك من القوة الخيالية الوهمية . وهذا كلام
الفارابي وابن سينا والطوسي وغيرهم وينسبون ذلك إلى أرسطو .
3-الجهمية
: نفاة صفات الرب تعالى ، قالوا : إن كلامه مخلوق .
4-الكلابية
أتباع عبدالله بن سعيد بن كلاب : قالوا : إن القرآن معنى قديم لازم بذات ارب كلزوم
الحياة والعلم وأنه لا يسمع منه على الحقيقة بل المسموع حروف وأصوات مخلوقة منفصلة
عن الرب دالة على ذلك المعنى القديم وهو القرآن وهو غير مخلوق .
5-مذهب
الأشاعرة (وهو مذهب الأشعري([15]) قبل رجوعه لمذهب
أهل السنة) : وهؤلاء عندهم أن القرآن معنى قائم بذات الرب ، أما الألفاظ فمخلوقه ،
وذلك الكلام العربي لم يتكلم الله به ولم يسمع منه ، أما المعنى فسمع منه حقيقة ،
وهذا من عجائبهم وافتراضاتهم المستحيلة إذ أنهم يعقلون إدراك الشيء بالحواس على
وجوده ، فكل وجود يصح تعلق الإدراكات كلها به لذا يجعلون المعنى مسموعاً حقيقة دون
أن يكون هنالك كلام ..
وكذلك
قولهم في رؤية الله تعالى أن الرؤية هي رؤية لمن ليس في جهة الرائي وأنه يرى حقيقة
وليس مقابلاً للرائي([16])
وجمهور
العقلاء يقولون : أن تصور هذا المذهب كاف : أن تصور هذا المذهب كاف في الجزم
ببطلانه وهو لا يتصور المستحيلات الممتنعات .
6-مذهب
الكرامية (أصحاب أبي عبدالله محمد بن كرام) : وهؤلاء أثبتوا لله كلاماً حقيقة
متعلقاً بالمشية والقدرة قائماً بذات الرب تعالى وهو حروف وأصوات مسموعة إلا أنهم
قالوا : هو حادث بعد أن لم يكن فهو عندهم متكلم بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن
متكلماً تعالى الله عن هذا الباطل .
7-مذهب
السالمية ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة ومن أهل الحديث : وهؤلاء يقولون : إن
كلامه تعالى صفة قديمة بذات الرب تعالى لم يزل ولم يزال ، ولا يتعلق بمشيئته
وقدرته ومع ذلك هو حروف وأصوات وسور وآيات سمعه جبريل عليه السلام منه وسمعه موسى
عليه السلام منه بلا واسطة ويسمعه سبحانه من يشاء ، ومع ذلك فحروفه وكلماته لا
يسبق بعضها بعضا .
بل
هي مقترنة الباء مع السين مع الميم في آن واحد . ثم لم تكن معدومة في وقت من
الأوقات ولا تعدم بل لم تزل قائمة بذاته سبحانه قيام صفة الحياة والسمع والبصر
نظراً لما في هذا المذهب المنتشر –حتى بين الفضلاء- من المستحيلات والغرائب التي
لا تفهم قال جمهور العقلاء : إن تصوره كافٍ في الجزم ببطلانه ، والبراهين العقلية
والأدلة القطعية شاهدة ببطلان كافٍ في الجزم ببطلانه ، والبراهين العقلية والأدلة
القطعية شاهدة ببطلان هذه المذاهب كلها وأنها مخالفة لصريح العقل والنقل .
*تلخيص
عقيدة أهل السنة والجماعة في كلامه تعالى :
([1])
النساء : 164 .
([2])
البقرة : 253 .
([3])
الأعراف : 144 .
([4])
الكهف : 109 .
([5])
لقمان : 27 .
([6]) التوبة : 6 ، كما نجد دليلاً أيضاً في قوله تعالى : ﴿قل
هو الله أحد﴾ ومثلها ﴿قل أعوذ برب الفلق﴾
و ﴿ قل أعوذ برب الناس﴾
ففيها دلالة قطعية على أن هذا القرآن بحروفه كلامه تعالى ليس للرسول r فيه شيء بل هو مبلغ أمين عن الله عز
وجل ، ولو كان القرآن من تصرف الرسول r لقال : (الله أحد) ، (أعوذ برب
الفلق) ، (أعوذ برب الناس) ولكن ليست المعاني وحدها من عند الله بل الألفاظ كذلك ،
ولذا بلغها رسول الله r كما هي حتى ولو كانت خطاباً له أن
يقول كذا أو كذا .
مستفاد
من كلام ابن القيم في التفسير القيم ص541 ، 542 .
([7])
الحاقة : 40 ، 41 .
([8])
الحاقة : 43 .
([9])
التكوير : 19 ، 20 .
([10])
وليس أدلة على ذلك من إرشاده r
من نزل منزلاً أن يقول : (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ) – كما في صحيح
مسلم وغيره – فكيف يجوز لعاقل فضلاً عن رسول الله r أن يستعيذ بمخلوق من شر ما خلق ؟!
([11])
انظر صحيح البخاري : كتاب الطب ، وانظر فتح الباري جـ10 ص232 .
([12])
طه : 5 .
([13])
هم الذين يقولون بوحدة الوجود كابن عربي وأمثاله ولا يفرقون بين الخالق والمخلوق
بل يجعلون الوجود بأسره هو بعينه الله ويجعلون كل كلام في الوجود كلام الله ،
تعالى الله عن كفرهم وإفكهم .
([14])
هذه الطوائف تحدث عنها صاحب كتاب معارج القبول رحمه الله في آخر الكلام عن توحيد
المعرفة والإثبات وقد قدمتها لمناسبتها للمقام وإتماماً للفائدة .
([15])
قال محب الدين الخطيب رحمه الله بهامشه معارج القبول : المعروف من حياة أبي الحسن
الأشعري أنه مرت به ثلاث أدوار :
الأول
: أنه كان مع المعتزلة في البصرة .
الثاني
: يقظته لفساد مذهبهم ، لكنه دخل معهم في جدل طويل بأساليبهم وأقيستهم ، وقد استمر
على ذلك نحو عشرين سنة ألف فيها أكثر كتبه ، ومن هذا الجدل مع المعتزلة ومن هذه
الكتب نشأ المذهب المنسوب إليه ، وهو الذي اضطر شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم إلى
إدحاضه والتنبيه على ما يخالف منه مذهب السلف .
أما
الدور الثالث من حياة الأشعري : فهو الذي ختم الله به حياته بالحسنى بعد انتقاله
من البصرة إلى بغداد واتصاله بأهل الحديث وأتباع الإمام أحمد ، وفي هذه الحقبة ألف
(مقالات الإسلاميين) و(الإبانة) . ولا شك أن (الإبانة) من آخر مصنفاته إن لم تكن
آخرها كما نص عليه مترجموه ، ففي هذين الكتابين مذهبه الذي أراد أن يلقى الله عليه
. والذي كان عليه في البصرة هو الذي اشتهر عنه وبقي منسوباً إليه وهو بريء من
كبراءته من الاعتزال الذي كان من رجاله في صدر حياته .
([16]) وقد وقعوا في هذا المأزق بناء على مذهبهم في نفي علوه تعالى
وفوقيته على عرشه ، والله أعلم .