جاء في المهذب في أصول الفقه المقارن للنملة:
أولاً: التعارض لغة: هو التقابل، وهذا قد يكون على سبيل
المماثلة والمساواة، ومن ذلك قولهم: " عارضت فلانا في السير "
إذا سرت حياله.
أولاً: التعارض لغة: هو التقابل، وهذا قد يكون على سبيل
المماثلة والمساواة، ومن ذلك قولهم: " عارضت فلانا في السير "
إذا سرت حياله.
وقد يكون على سبيل الممانعة والمدافعة، ومن ذلك قولهم:
"عرض الشيء يعرض ": إذا انتصب وصار مانعا كالحجر في الطريق
يمنع السالكين، ومنه قولهم: " اعترض الشيء دون الشيء " أي
حال دونه.
وهذا الثاني هو المناسب لمعنى التعارض في الاصطلاح كما سيأتي.
ثانيا: التعارض اصطلاحاً هو: تقابل الدليلين على سبيل الممانعة.
بيان التعريف:
لفظ " تقابل " عام يشمل كل تقابل، فيدخل التقابل الواقع بين
حكمين مختلفين كالوجوب والتحريم، ويدخل التقابل الواقع بين
أقوال المجتهدين، ويدخل التقابل بين الدليلين.
وعبارة: " تقابل الدليلين " أخرجت ما سبق إلا تقابل الدليلين.
وعبارة: " على سبيل الممانعة " أتي بها لبيان أنه يشترط في
الدليلين المتعارضين: أن يدل أحد الدليلين على غير ما يدل عليه
الآخر كأن يدل أحدهما على الجواز، والآخر يدل على التحريم،
فدليل الجواز يمنع التحريم، ودليل التحريم يمنع الجواز، فكل منهما
مقابل الآخر، ومعارض له، ومانع منه.
المبحث الثاني شروط التعارض
ليس كل تعارض بين دليلين صحيحاً، بل إن للتعارض الصحيح
شروطاً هي كما يلي:
الشرط الأول: أن يكون الدليلان متضادين تمام التضاد بأن يكون
أحدهما يجوز، والآخر يحرم؛ لأن الدليلين إذا اتفقا في الحكم،
فلا تعارض كما بينا.
الشرط الثاني: أن يتساوى الدليلان في القوة، فلا تعارض بين
دليلين تختلف قوتهما من ناحية الدليل نفسه، كأن يدل حديث
متواتر على تحريم شيء، ويدل حديث آحاد على جوازه، فهنا لا
تعارض بينهما حيث يقدم الدليل المتواتر.
والتساوي بين الدليلين يجب أن يكون من جميع الوجوه:
فلا بد من التساوي في الثبوت فلا تعارض بين متواتر وآحاد.
ولا بد من التساوي في الدلالة، فلا تعارض بين ما دلالته قطعية
وما دلالته ظنية.
ولا بد من التساوي في عدد الأدلة، فلا تعارض بين دليلين
ظنيين، وبين دليل واحد ظني.
الشرط الثالث: أن يكون تقابل الدليلين في وقت واحد؛ حيث
إن اختلاف الزمن ينفي التعارض، ومن هنا قدم خبر: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنباً وهو صائم "
وقد روته إحدى زوجاته - صلى الله عليه وسلم - على
الخبر الذي رواه أبو هريرة: " من أصبح جنبا فلا صوم له ".
الشرط الرابع: أن يكون تقابل الدليلين في محل واحد؛ لأن
التضاد والتنافي لا يتحقق بين الشيئين في محلين: فالنكاح مثلاً
يوجب الحل في المنكوحة، والحرمة في أمها، إذن لا تعارض بين
قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) ،
وقوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) إلى قوله: (وأمهات
نسائكم) ، وذلك لاختلاف من يقع عليها الحل ممن يقع عليها
التحريم.
المبحث الثالث إذا ثبت تعارض دليلين فهل يقدم الجمع أو الترجيح؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب، من أهمها مذهبان هما:
المذهب الأول: أنه يُقدم الجمع بين المتعارضين بأي نوع من أنواع
الجمع، فإن تعذر الجمع بين الدليلين المتعارضين، فإنه يرجح
أحدهما على الآخر، وذلك بأي وجه من أوجه الترجيح، فإن تعذر
على المجتهد الجمع والترجيح، فإنه ينظر في تاريخ ورود الدليلين
المتعارضين، فإن عرفه فإنه حينئذٍ ينسخ المتأخر المتقدم، فإن تعذر
الجمع، والترجيح ومعرفة المتاخر من المتقدم، فإن المجتهد يحكم
بسقوط الدليلين المتعارضين، ويرجع ويستدل على حكم الحادثة
بالبراءة الأصلية، وكأن الدليلين المتعارضين غير موجودين.
هذا مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن الدليلين المتعارضين دليلان قد ثبتا، ويمكن
استعمالهما معا، وبناء أحدهما على الآخر، فلا يمكن إلغاؤهما،
أو إلغاء واحد منهما إذا أمكن العمل بكل واحد منهما من وجه..
الدليل الثاني: أنه فد ورد تقديم الجمع بين الدليلين عن ابن عباس
- رضي اللَّه عنهما - حيث إنه لما قرأ قوله تعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) ، وقوله:. (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)
قال - أى ابن عباس -: يُسألون في موضع، ولا يُسألون في
موضع آخر، فقال - جامعا بينهما -: " لا يسألهم ربهم هلعملتم كذا وكذا؛ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول لهم: لِمَ
عملتم كذا وكذا؟ "، فهنا قدم الجمع على غيره.
الدليل الثالث: أن الجمع بين الأدلة المتعارضة فيه تنزيههما عن
النقص؛ لأن الدليلين المتعارضين بالجمع يتوافقان، ويزال الاختلاف
المؤدي إلى النقص والعجز، بخلاف الترجيح فإنه يؤدي إلى إلغاء
أحدهما وتركه؛ لأنه يوجب العمل بالراجح دون المرجوح، وكذلك
النسخ والتخيير، حيث إنه يترتب عليهما ترك أحد الدليلين،
وكذلك إسقاط الدليلين معا يترتب عليه ترك العمل بهما معا.
المذهب الثاني: أنه يقدم الترجيح على الجمع، فقال أصحاب هذا
المذهب في تفصيل ذلك: إنه يقدم النظر في تاريخ ورودهما، فإن
علم أن أحدهما متقدم على الآخر، فإنه يحكم بأن المتأخر ناسخ
للمتقدم، وإن تعذر معرفة تاريخ ورودهما: فإنه يرجح أحدهما
على الآخر بأي وجه من وجوه الترجيح، فإن تعذر التاريخ
والترجيح: جمع بينهما إن أمكن؛ لأن إعمال الدليلين اللذين لا
مرجح لأحدهما أوْلى من إهدارهما، فإن تعذر الجمع ترك العمل
بهما، وعدل إلى الاستدلال إلى ما دونهما في الرتبة.
وهذا مذهب الحنفية.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - كانوا إذا
أشكل عليهم حديثان، فإنهم يلجأون إلى الترجيح، وقد ثبت ذلك
في وقائع منها: أنهم رجحوا حديث عائشة - رضي اللَّه عنها -:
"إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل " على حديث: " إنما الماء من
الماء".
جوابه:
هذا يدل على وجوب الترجيح بين الدليلين المتعارضين، وهذا لا
نزاع فيه، ولكن النزاع في تقديم الجمع على الترجيح، أو العكس،
وهذا الدليل لا يدل عل تقديم أحدهما على الآخر، ونحن نقول:
إنه إذا تعذر الجمع لجأنا إلى الترجيح، فلما لم يمكن الجمع بين
الحديثين السابقين، لجأوا إلى الترجيح.
الدليل الثاني: أن العقلاء قد اتفقوا على أنه عند التعارض يقدم
الراجح على المرجوح، واتفقوا - أيضا - على امتناع ترجيح
المرجوح، أو مساواته بالراجح.
جوابه:
أن النظر إلى الراجح من الأدلة والمرجوح منها، إنما يكون لدفع
التعارض بإسقاط أحدهما عن العمل، والأدلة بعد الجمع تكون
متوافقة، فلا تحتاج إلى الترجيح أصلاً.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي، وهو ظاهر.