كتبه : عبد الجليل مبرور
قد حدث ذات مرة أن جمع أحد الأئمة في بلدنا، بين المغرب والعشاء، نظرا لتوقعه نزول المطر، متابعا في ذلك لنشرة الأخبار، ومن جهة أخرى للغيوم القادمة والمتوقَع وصولها.
وقد أثار فعله بلبلة بين أوساط المصلين، حتى أني سمعت أن من جماعة المسجد من اشتكاه إلى مندوب الوزارة، ومنهم من أراد أن يشكوه إلى الوزارة في العاصمة!!!
فأحببت أن أجمع هذه الصفحة لبيان، ما إذا كان لفعله أصل.
فأقول وبالله التوفيق :
الذي عليه جمهور العلماء من الشافعية، والمالكية، والحنابلة خلافا للأحناف، أن الجمع جائز بين المغرب والعشاء بسبب المطر الذي يبل الثياب، لما رواه ابن عباس في الصحيحين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً" ولمسلم " من غير خوف ولا سفر" وفي رواية أخرى" من غير خوف ولا مطر" فذهب المالكية والشافعية إلى أن ذلك كان بعذر المطر، وأن رواية " من غير خوف ولا مطر"تخالف ما رواه الجماعة.
ولما جاء عن ابن عباس نفسه وابن عمر أيضا أنهما كانا يجمعان للمطر.
قال الحافظ رحمه الله: "واعلم أنه لم يقع مجموعا بالثلاثة في شيء من كتب الحديث بل المشهور من غير خوف ولا سفر"اهـ
جاء في بداية المجتهد : " وسبب اختلافهم: أولا: اختلافهم في تأويل الاثار التي رويت في الجمع والاستدلال منها على جواز الجمع لانها كلها أفعال، وليست أقوالا، والافعال يتطرق إليها الاحتمال كثيرا أكثر من تطرقه إلى اللفظ، وثانيا: اختلافهم أيضا في تصحيح بعضها، وثالثا: اختلافهم أيضا في إجازة القياس في ذلك فهي ثلاثة أسباب كما ترى."اهـ
وعلى هذا فقد خص المالكية جواز الجمع تقديماً بين المغرب و العشاء، أما الحنابلة فعندهم جائز تقديماً أو تأخيراً ، وأجازه الشافعية بين المغرب والعشاء وبين الظهر والعصر تقديماً فقط.
هذا من حيث جواز الجمع في الجملة،،،
أما المسألة التي هي محل البحث، هي هل يُجمع إن كان المطر نازلا أم يكفي أن يكون متوقَعا؟ ونعني هنا بمتوقع، كونه قد غلب على الظن أن المطر نازل بقرينة من القرائن والتي غالبا ما تكون حسية كمشاهدة السحب المحملة بالأمطار وهي قادمة أو يحتمل قدومها، ومن الوسائل الحديثة والتي تعد من أقوى القرائن هي الأقمار الصناعية ومحطات الأرصاد الجوية خصوصا إذا تعلق الأمر بالعواصف وغيرها، لما فيها من خطر جسيم الذي يفوق المشقة التي في المطر...، وهي وإن لم تفد اليقين الجازم، فهي تفيد الظن الراجح، وكما هو معلوم فهذا النوع من الظن كاف في التعبد، إن تعذر اليقين.
وبالنظر في كتب المالكية نجدهم قد بحثوا هذه المسألة :
جاء في شرح الخرشي على مختصر خليل (1/424):" الْمَطَرُ الْمُتَوَقَّعُ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِعِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الشَّاذِلِيُّ فَإِنْ قُلْت الْمَطَرُ إنَّمَا يُبِيحُ الْجَمْعَ إذَا كَثُرَ وَالْمُتَوَقَّعُ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ قُلْت يُمْكِنُ عِلْمُ ذَلِكَ بِالْقَرِينَةِ ، ثُمَّ إنَّهُ إذَا جَمَعَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَمْ يَحْصُلْ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعِيدَ فِي الْوَقْتِ"اهـ
جاء في الفواكه الدواني : "( وَرُخِّصَ ) أَيْ سُهِّلَ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ أَوْ السُّنِّيَّةِ ( فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لَيْلَةَ الْمَطَرِ ) الْغَزِيرِ الَّذِي يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى تَغْطِيَةِ رُءُوسِهِمْ بِحَيْثُ يَشُقُّ مَعَهُ الْوُصُولُ إلَى الْمَنَازِلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَاقِعِ أَوْ الْمُتَوَقَّعِ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ"اهـ
وجاء في الثمر الداني للآبي:" فالمطر سبب للجمع بين المغرب والعشاء على القول المشهور بشرط أن يكون وابلا أي كثيرا، وهو الذي يحمل أواسط الناس على تغطية الرأس، وسواء كان واقعا أو متوقعا، ويمكن علم ذلك بالقرينة."اهـ
من خلال النقول السابقة يتبين أن الجمع عند المالكية جائز سواء كان واقعا أو متوقعا بحسب القرائن، وهذا التعليل وجيه لأن محله المطر الذي يبل الثياب، فمن باب أولى إذا أذيع أنه من المحتمل هبوب عواصف خصوصا للمسلمين في أوربا.
وكي لا يفتح الباب على عواهنه، ويحدث تميع في ذلك، فينبغي إعادة الصلاة -عند المالكية- في الوقت إن تخلف نزول المطر المتوقع ، وهذا قيد وجيه وأحوط.
فقد جاء حاشية الصاوي على الشرح الصغير : " قَوْلُهُ : [ أَوْ مُتَوَقَّعٍ ] : إنْ قُلْت الْمَطَرُ إنَّمَا يُبِيحُ الْجَمْعَ إذَا كَثُرَ ، وَالْمُتَوَقَّعُ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ ؟ وَأُجِيبُ : بِأَنَّهُ عُلِمَ كَثْرَتُهُ بِالْقَرِينَةِ فَإِنْ تَخَلَّفَ وَلَمْ يَحْصُلْ فَيَنْبَغِي إعَادَةُ الثَّانِيَةِ فِي الْوَقْتِ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ سَلَامَةِ الْمُغْمَى - كَمَا فِي الْخَرَشِيِّ ."اهـ ينظر أيضا حاشية الدسوقي على الشرح الكبير.
والله أعلم .