آخر المواضيع

الخميس، 26 يونيو 2014

لا إنكار في مسائل الاجتهاد

فقد أصل العلماء هذا الأصل النافع ، درء لأبواب الفتنة وسدا لذرائعها ، مما يمكن أن يحدث شرخا في جسدها ، ويؤدي إلى ضعفها وهوانها ، فمتى ثبت أن الأمر من موارد الاجتهاد والنظر ، فلا يجوز الإنكار ، ما دام هذا الاجتهاد صادرا من عالم مؤهل لذلك ومحل النزاع محتمل لهذا الفهم ، أما إذا المسألة من مسائل الخلاف التي صادمت نصا أو إجماعا أو قياسا جليا فيجب الإنكار فيها وفق ضوابط سنذكرها إن شاء الله في محلها.

ويقول الماوردي رحمه الله : " وأما ما اختلف الفقهاء في حظره وإباحته فلا مدخل له في إنكاره إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه"([1]) اهـ
يقول الإمام النووي رحمه الله : " إنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه ؛ وذلك يختلف باختلاف الشيء ؛ فإن كان من الواجبات الظاهرة ، والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها ، فكل المسلمين علماء بها ، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ، ولا لهم إنكاره ، بل ذلك للعلماء . ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه أما المختلف فيه فلا إنكار فيه لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب . وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم . وعلى المذهب الآخر المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا ، والإثم مرفوع عنه ، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق ؛ فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر "اهـ([2])
ويقول ابن تيمية رحمه الله : " إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها ؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه " اهـ([3])
ويقول أيضا : "بل أجمع الأئمة الأربعة وأتباعهم وسائر الأئمة مثلهم على أنه من قضى بأنه لا يقع الطلاق في مثل هذه الصورة لم يجز نقض حكمه . ومن أفتى به ممن هو من أهل الفتيا ساغ له ذلك ولم يجز الإنكار عليه باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين ولا على من قلده . ولو قضى أو أفتى بقول سائغ يخرج عن أقوال الأئمة الأربعة في مسائل الأيمان والطلاق وغيرهما مما ثبت فيه النزاع بين علماء المسلمين ولم يخالف كتابا ولا سنة ولا معنى ذلك ؛ بل كان القاضي به والمفتي به يستدل عليه بالأدلة الشرعية - كالاستدلال بالكتاب والسنة - فإن هذا يسوغ له أن يحكم به ويفتي به .
ولا يجوز باتفاق الأئمة الأربعة نقض حكمه إذا حكم ولا منعه من الحكم به ولا من الفتيا به ولا منع أحد من تقليده . ومن قال : إنه يسوغ المنع من ذلك فقد خالف إجماع الأئمة الأربعة ؛ بل خالف إجماع المسلمين مع مخالفته لله ورسوله"([4])
ويقول أيضا : " مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه وإذا كان في المسألة قولان : فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين والله أعلم "اهـ([5])
ويقول ابن القيم رحمه الله : " وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهدا أو مقلدا " اهـ([6])
وقال أيضا : " وهذا النوع من الاختلاف لا يوجب معاداة ولا افتراقا في الكلمة ولا تبديدا للشمل فإن الصحابة y اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الفروع كالجد مع الإخوة وعتق أم الولد بموت سيدها ووقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة وفي الخلية والبرية والبتة وفي بعض مسائل الربا وفي بعض نواقص الوضوء وموجبات الغسل وبعض مسائل الفرائض وغيرها فلم ينصب بعضهم لبعض عداوة ولا قطع بينه وبينه عصمة بل كانوا كل منهم يجتهد في نصر قوله بأقصى ما يقدر عليه ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الألفة والمحبة والمصافاة والموالاة من غير أن يضمر بعضهم لبعض ضغنا ولا ينطوي له على معتبة ولا ذم بل يدل المستفتي عليه مع مخالفته له ويشهد له بأنه خير منه وأعلم منه فهذا الاختلاف أصحابه بين الأجرين والأجر وكل منهم مطيع لله بحسب نيته واجتهاده وتحريه الحق"([7])اهـ
ويقول ابن مفلح رحمه الله : " قد بينا الأمر على أن مسائل الاجتهاد لا إنكار فيها ، وذكر القاضي فيه روايتين ، ويتوجه قول ثالث وفي كلام أحمد أو بعض الأصحاب ما يدل عليه إن ضعف الخلاف فيها أنكر ، وإلا فلا ، وللشافعية أيضا خلاف ، فلهم وجهان في الإنكار على من كشف فخذيه ، فحمل حال من أنكر على أنه رأى هذا أولى ولم يعتقد المنكر أنه يفضي ذلك إلى مفسدة فوق مفسدة ما أنكره ، وإلا لسقط الإنكار أو لم يجز " ([8])اهـ
قال الإمام البهوتي رحمه الله : " ( ولا إنكار في مسائل الاجتهاد ) على من اجتهد فيها وقلد مجتهدا ؛ لأن المجتهد إما مصيب ، أو كالمصيب في حط الإثم عنه وحصول الثواب له .
قال في الفروع : وفي كلام أحمد وبعض الأصحاب ما يدل على أنه إن ضعف الخلاف أنكر فيها وإلا فلا "([9])ا هـ
وكان سفيان الثوري، يقول: " إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه"اهـ([10]).
ويقول أيضا :" ما اختلف فيه الفقهاء ، فلا أنهى أحدا من إخواني أن يأخذ به "([11])اهـ
و عن يحيى بن سعيد قال : " ما برح المستفتون يستفتون فيحل هذا ويحرم هذا فلا يرى المحرم أن المحلل هلك لتحليله ولا يرى المحلل أن المحرم هلك لتحريمه"([12])اهـ
وقال الإمام أحمد رحمه الله :" لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا "([13])اهـ
قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي:" سألت أحمد: هل ترى بأسا أن يصلي الرجل تطوعا بعد العصر والشمس بيضاء مرتفعة؟ قال: لا نفعله، ولا نعيب فاعله.
قال: وبه قال أبو حنيفة.وهذا لا يدل على أن أحمد رأى جوازه، بل رأى أن من فعله متأولا، أو مقلدا لمن تأوله لا ينكر عليه، ولا يعاب قوله؛ لأن ذلك من موارد الاجتهاد السائغ"([14])اهـ.

قال الحافظ بن رجب رحمه الله :" والمنكر الذي يجب إنكاره: ما كان مجمعا عليه، فأما المختلف فيه، فمن أصحابنا من قال : لا يجب إنكاره على من فعله مجتهدا فيه ، أو مقلدا لمجتهد تقليدا سائغا"([15])اهـ
بل جعلها السيوطي رحمه الله قاعدة :" لا ينكر المختلف فيه ، وإنما ينكر المجمع عليه"،وقال إنه يستثنى منها صور ينكر فيها المختلف فيه :
إحداها : أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ . ومن ثم وجب الحد على المرتهن بوطء الأمة المرهونة ولم ينظر للخلاف الشاذ في ذلك .
الثانية : أن يترافع فيه لحاكم ، فيحكم بعقيدته . إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف معتقده .
الثالثة : أن يكون للمنكر فيه حق ، كالزوج المسلم يمنع زوجته الذمية من شرب الخمر بالرغم من وجود خلاف في حقه بمنعها وعدمه "([16])
____________________________________

([1]) الأحكام السلطانية (ص331 )

([2]) شرح صحيح مسلم(2/23)

([3]) مجموع الفتاوى (30/80)

([4]) مجموع الفتاوى (33/79)

([5]) مجموع الفتاوى(20/207)

([6]) إعلام الموقعين(3/288)

([7]) الصواعق المرسلة(2/517)

([8]) الفروع(3/23)

([9]) كشاف القناع(1/454)

([10]) الفقيه والمتفقه(2/136)

([11]) الفقيه والمتفقه(2/135)

([12]) جامع بيان العلم وفضله(2/903)

([13]) سير أعلام النبلاء(11/371)

([14]) فتح الباري لابن رجب(5/49)

([15]) جامع العلوم والحكم(ص 341)

([16])الأشباه والنظائر(ص 216)


كتبـــــه
أخوكم ومحبكم في الله عبد الجليل مبرور