الموقف من العالم المعروف بالخلاف المذموم : من المعلوم أنه في السكوت عن هذا النوع من العلماء تدليس حاله على العوام وتعمية لأمره فيفتنون بقوله، فجازت بذلك غيبته بلا خلاف بين العلماء كي لا يفتتح باب إضلال وضلال على الأمة، ووجب الإنكار عليه مع مراعاة الضوابط الآتية رأبا لكل صدع يمكن أن يصيب جسد الأمة، وأخذا بأسباب الألفة والاجتماع .
مع مراعاة الضوابط والقيود التالية فهي مهمة للغاية ونحن في حاجة ماسة إليها اليوم درءً لمفسدة الفرقة والشتات الحاصلتين اليوم في العالم الإسلامي .
- مراعاة المصالح والمفاسد في هذا الإنكار : أثناء تطبيق مرتبة الإنكار باليد أو باللسان على آحاد الناس أو العلماء، ينبغي مراعاة ضوابط هامة كي لا ينقلب هذا الإنكار إلى منكر أكبر تترتب عليه مفسدة من فتنة أو فرقة، لأنه إذا ترتب عليه مفسدة وجب تعرية القول بمعزل عن قائله و الرد على هذا القول ودحضه بالحجة وإزالة كل شبهة ونبذا لأسباب الفرقة والاختلاف، خصوصا إذا كان لقائله طائفة وأتباع كُثُرٌ يتعصبون له ويوالون ويعادون لأجله.
- مراعاة مصلحة الاجتماع والألفة درء ً لفتنة وشر الفرقة
- مراعاة غلبة البدعة و تسلط أصحابها والظروف المحيطة بها قبل الحكم
- التعاون لإقامة الواجبات مع المبتدعة و الفساق عند تعذر إقامتها إلا معهم
وإليكم تفصيل ذلك بنقول مهمة عن أعلام الأمة :
الموقف من العالم المعروف بالخلاف المذموم
لقد سبق أن عرفنا خطورة زلة العالم و شواذ العلم ، وأنها من سبل الشيطان في تحريف الدين، وأن التنبيه عليها وفضحها ودكها بالحجة والبرهان سبيل من سبل حفظ هذا الدين، لذلك يجب أيضا الوقوف في وجه قائلها إذا كان معروفا بالاجتهاد المذموم، وصار ديدنه جمع هذه الزلات وشواذ العلم ونفث سمومها بين العامة والدهماء، لأن في السكوت عن هذا النوع من العلماء تدليس حاله على العوام وتعمية لأمره فيفتنون بقوله، فجازت بذلك غيبته بلا خلاف بين العلماء كي لا يفتتح باب إضلال وضلال على الأمة .
قال الغزالي رحمه الله : " اعلم أن المرخص في ذكر مساوئ الغير هو غرض صحيح في الشرع لا يمكن التوصل إليه إلا به فيدفع ذلك إثم الغيبة وهي ستة أمور: ...ثم ذكر منها :
الرابع: تحذير المسلم من الشر، فإذا رأيت فقيها يتردد إلى مبتدع أو فاسق وخفت أن تتعدى إليه بدعته وفسقه فلك أن تكشف له بدعته وفسقه، مهما كان الباعث لك الخوف عليه من سراية البدعة والفسق لا غيره، وذلك موضع الغرور إذ قد يكون الحسد هو الباعث ويلبس الشيطان ذلك بإظهار الشفقة على الخلق." اهـ إحياء علوم الدين (9/1613-1614)
قال النووي رحمه الله :" اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي، لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو ستة أسباب : ...ثم ذكر منها
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم: وذلك من وجوه:
منها: جرح المجروحين من الرواة والشهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة.
ومنها: المشاورة في مصاهرة إنسان، أو مشاركته، أو إيداعه، أو معاملته، أو غير ذلك، أو مجاورته، ويجب على المشاور أنه لا يخفي حاله، بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة.
ومنها: إذا رأى متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك، فعليه نصيحته، ببيان حاله، بشرط أن يقصد النصيحة، وهذا مما يغلط فيه، وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد، ويلبس الشيطان عليه ذلك، ويخيل إليه أنه نصيحة، فليتفطن لذلك.
ومنها أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها، إما أن لا يكون صالحا لها، وإما أن يكون فاسقا ومغفلا ونحو ذلك، فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة، ليزيله ويولي من يصلح أو يعلم ذلك منه، ليعامله بمقتضى حاله، ولا يغتر به، وأن يسعى في أن يحثه على الاستقامة أو يستبدل به." اهـ. رياض الصالحين(ص 356-357)
قال ابن تيمية رحمه الله : " من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافا لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع "اهـ مجموع الفتاوى(24/172)
قال ابن تيمية رحمه الله : " هذان النوعان يجوز فيهما الغيبة بلا نزاع بين العلماء :
أحدهما : أن يكون الرجل مظهرا للفجور مثل الظلم والفواحش والبدع المخالفة للسنة فإذا أظهر المنكر وجب الإنكار عليه بحسب القدرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " رواه مسلم . وفي المسند والسنن عن " أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : أيها الناس إنكم تقرءون القرآن وتقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة:105] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه " فمن أظهر المنكر وجب عليه الإنكار وأن يهجر ويذم على ذلك . فهذا معنى قولهم : من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له . بخلاف من كان مستترا بذنبه مستخفيا فإن هذا يستر عليه ؛ لكن ينصح سرا ويهجره من عرف حاله حتى يتوب ويذكر أمره على وجه النصيحة .
ثم قال بعد ذلك بأسطر (...) "وإذا كان مبتدعا يدعو إلى عقائد تخالف الكتاب والسنة أو يسلك طريقا يخالف الكتاب والسنة ويخاف أن يضل الرجل الناس بذلك : بين أمره للناس ليتقوا ضلاله ويعلموا حاله . وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح وابتغاء وجه الله تعالى لا لهوى الشخص مع الإنسان : مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية أو تحاسد أو تباغض أو تنازع على الرئاسة فيتكلم بمساوئه مظهرا للنصح وقصده في الباطن الغض من الشخص واستيفاؤه منه فهذا من عمل الشيطان و " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " بل يكون الناصح قصده أن الله يصلح ذلك الشخص وأن يكفي المسلمين ضرره في دينهم ودنياهم ويسلك في هذا المقصود أيسر الطرق التي تمكنه." مجموع الفتاوى(28/221)
قال الحافظ رحمه الله : " قال العلماء : تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعا حيث يتعين طريقا إلى الوصول إليه بها : كالتظلم ، والاستعانة على تغيير المنكر ، والاستفتاء ، والمحاكمة ، والتحذير من الشر ، ويدخل فيه تجريح الرواة والشهود ، وإعلام من له ولاية عامة بسيرة من هو تحت يده ، وجواب الاستشارة في نكاح أو عقد من العقود ، وكذا من رأى متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق ويخاف عليه الاقتداء به . وممن تجوز غيبتهم من يتجاهر بالفسق أو الظلم أو البدعة ." فتح الباري لابن حجر(10/486)
قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله : " الأصل في الغيبة الحرمة وقد تجب أو تباح لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا بها، وتنحصر في ستة أبواب:
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم كجرح الرواة والشهود والمصنفين والمتصدين لإفتاء أو إقراء مع عدم أهلية أو مع نحو فسق أو بدعة، وهم دعاة إليها ولو سرا فيجوز إجماعا بل يجب وكأن يشير وإن لم يستشر على مريد تزوج أو مخالطة لغيره في أمر ديني أو دنيوي، وقد علم في ذلك الغير قبيحا منفرا كفسق أو بدعة أو طمع أو غير ذلك كفقر في الزوج لما يأتي في معاوية رضي الله عنه بترك تزويجه أو مخالطته، ثم إن اكتفى بنحو لا يصلح لك لم يزد عليه وإن توقف على ذكر عيب ذكره، ولا تجوز الزيادة عليه أو عيبين اقتصر عليهما وهكذا؛ لأن ذلك كإباحة الميتة للمضطر فلا يجوز تناول شيء منها إلا بقدر الضرورة، نعم الشرط أن يقصد بذلك بذل النصيحة لوجه الله تعالى دون حظ آخر، وكثيرا ما يغفل الإنسان عن ذلك فيلبس عليه الشيطان ويحمله على التكلم به حينئذ لا نصحا ويزين له أنه نصح وخير، ومن هذا أن يعلم من ذي ولاية قادحا فيها كفسق أو تغفل فيجب ذكر ذلك لمن له قدرة على عزله وتولية غيره أو على نصحه وحثه على الاستقامة." الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/23-24)
مراعاة المصالح والمفاسد في هذا الإنكار :
سبق أن علمنا أن الإنكار على كل عالم معروف بالاجتهاد المذموم واجب متحتم مع وجوب التحذير منه أيضا، لكن أثناء تطبيق مرتبة الإنكار باليد أو باللسان على آحاد الناس أو العلماء، ينبغي مراعاة ضوابط هامة كي لا ينقلب هذا الإنكار إلى منكر أكبر تترتب عليه مفسدة من فتنة أو فرقة، لأنه إذا ترتب عليه مفسدة وجب تعرية القول بمعزل عن قائله و الرد على هذا القول ودحضه بالحجة وإزالة كل شبهة ، خصوصا إذا كان لقائله طائفة وأتباع كثر يتعصبون له ويوالون ويعادون لأجله.
يقول ابن تيمية رحمه الله :" إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت ؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد . فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به ؛ بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته ؛ لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على إتباع النصوص لم يعدل عنها وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر وقل إن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام . وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما ؛ بل إما أن يفعلوهما جميعا ؛ أو يتركوها جميعا : لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا من منكر ؛ ينظر : فإن كان المعروف أكثر أمر به ؛ وإن استلزم ما هو دونه من المنكر . ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه ؛ بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات وإن كان المنكر أغلب نهى عنه ؛ وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف . ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرا بمنكر وسعيا في معصية الله ورسوله . وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما . فتارة يصلح الأمر ؛ وتارة يصلح النهي ؛ وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين ؛ وذلك في الأمور المعينة الواقعة " مجموع الفتاوى(28/129)
وقال ابن القيم رحمه الله : " أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر" أعلام الموقعين(3/4)
وقال أيضا :" فإنكار المنكر أربع درجات الأولى أن يزول ويخلفه ضده الثانية أن يقل وإن لم يزل بجملته الثالثة أن يخلفه ما هو مثله الرابعة أن يخلفه ما هو شر منه فالدرجتان الأوليان مشروعتان والثالثة موضع اجتهاد والرابعة محرمة" أعلام الموقعين(3/4)
وبناء على ما سبق ينبغي مراعاة الضوابط المهمة التالية :
مراعاة مصلحة الاجتماع والألفة درء لفتنة وشر الفرقة :
قال ابن تيمية رحمه الله : "هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف ونهى عن البدعة والاختلاف وقال: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) [الأنعام:159] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة) ( ) وقال: (الشيطان مع الواحد وهو من الأثنين أبعد ) ( ) وقال: (الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب أنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم)( ).
فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالا أو غاويا وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وإذا كان قادرا على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه" اهـ مجموع الفتاوى(3/286-287).
وقال أيضا : "وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها، وإقامة كل خير، وابن مخلوف لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه، ولا أعين عليه عدوه قط، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذه نيتي وعزمي مع علمي بجميع الأمور، فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين، ولن أكون عونا للشيطان على إخوتي المسلمين، ولو كنت خارجا لكنت أعلم بماذا أعاونه" اهـ مجموع الفتاوى (3/271).
وقال أيضا: "والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة. وأنا كنت من أعظم الناس تأليفا لقلوب المسلمين وطلبا لاتفاق كلمتهم واتباعا لما أمرنا به من الإعتصام بحبل الله، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة وبينت لهم أن الأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد رحمه الله ونحوه، المنتصرين لطريقه، كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه.
ثم قال: وكنت أقرر هذا للحنابلة وأبين أن الأشعري وإن كان من تلامذة المعتزلة ثم تاب، فإنه كان تلميذ الجبائي ومال إلى طريقة ابن كلاب وأخذ عن زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أمورا أخرى، وذلك آخر أمره كما ذكره هو وأصحابه في كتبهم" اهـ مجموع الفتاوى ( 3/227)
لهذا كان على العلماء واجب تحذير أتباعهم من هذا التعصب المقيت ،ويكفي أن ننقل قول شيخ الإسلام ابن تيمية إخمادا لهذه الفتنة العظيمة التي ألبست المسلمين اليوم شيعا ، وأباحتهم لأعدائهم ،
حيث يقول : " وكذلك ـ أي من البدع ـ التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله: مثل أن يقال للرجل: أنت شكيلي أو قرفندي. فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة لا شكيلي ولا قرفندي، والواجب على المسلم إذا سئل عن ذلك أن يقول: لا أنا شكيلي ولا قرفندي؛ بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله.
بل الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، أو إلى شيخ كالقادري والعدوي ونحوهم، أو مثل الانتساب إلى القبائل: كالقيسي واليماني، وإلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري.
فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان.
فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تفترق وتختلف، حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى، وقد برأ الله نبيه صلى الله عليه وسلم ممن كان هكذا.
فهذا فعل أهل البدع؛ كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم.
وأما أهل السنة والجماعة؛ فهم معتصمون بحبل الله، وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه وإن كان غيره أتقى لله منه، وإنما الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله، ويؤخر من أخره الله ورسوله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، وأن يرضى بما رضي الله به ورسوله، وإن يكون المسلمون يدا واحدة؛ فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يضلل غيره ويكفره، وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة، ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين؛ فليس كل من أخطأ يكون كافرا ولا فاسقا، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: ( رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) [البقرة:286] ،وثبت في ((الصحيح)) أن الله قال: قد فعلت... رواه مسلم (126) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؟!
وهذا التفريق الذي حصل من الأمة؛ علمائها ومشائخها، وأمرائها وكبرائها؛ هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله.
كما قال تعالى: ( وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء) [المائدة: 14]
فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب".اهـ مجموع الفتاوى (3 / 415 -421).
وقال ابن القيم رحمه الله : " … فكيف يسوغ لمن يدعي الإيمان ، أن يحمله بغضه لطائفة منتسبة إلى الرسول ، تصيب وتخطئ ، على ألا يعدل فيهم ، بل يجرد لهم العداوة وأنواع الأذى ، ولعله لا يدري أنهم أولى بالله ورسوله وما جاء به منه : علما وعملا،ودعوة إلى الله على بصيرة ، وصبرا من قومهم على الأذى في الله ، ولإقامة الحجة في الله ، ومعذرة لمن خالفهم بالجهل ، لا كمن نصب معالمه صادرة عن آراء الرجال ، فدعا إليها ، وعاقب عليها ، وعادى من خالفها بالعصبية ، وحمية الجاهلية ، والله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله "اهـ بدائع الفوائد ( 2 / 165- 166 ).
مراعاة غلبة البدعة و تسلط أصحابها والظروف المحيطة بها قبل الحكم:
قال الغزالي رحمه الله : " ينظر إلى البلدة التي فيها أظهرت تلك البدعة؛ فإن كانت البدعة غريبة والناس كلهم على السنة فلهم الحسبة عليه بغير إذن السلطان، وإن انقسم أهل البلد إلى أهل البدعة وأهل السنة وكان في الاعتراض تحريك فتنة بالمقاتلة فليس للآحاد الحسبة في المذاهب إلا بنصب السلطان. فإذا رأى السلطان الرأي الحق ونصره وأذن لواحد أن يزجر المبتدعة عن إظهار البدعة كان له ذلك وليس لغيره. فإن ما يكون بإذن السلطان لا يتقابل، وما يكون من جهة المبتدعة عن إظهار البدعة كان له ذلك وليس لغيره. فإن ما يكون بإذن السلطان لا يتقابل، وما يكون من جهة الآحاد فيتقابل الأمر فيه. وعلى الجملة فالحسبة في البدعة أهم من الحسبة في كل المنكرات، ولكن ينبغي أن يراعى فيها هذا التفصيل الذي ذكرناه كيلا يتقابل الأمر ولا ينجو إلى تحريك الفتنة. بل لو أذن السلطان مطلقا في منع كل من يصرح بأن القرآن مخلوق، أو أن الله لا يرى، أو أنه مستقر على العرش مماس له، أو غير ذلك من البدع لتسلط الآحاد على المنع منه ولم يتقابل الأمر فيه وإنما يتقابل عند عدم إذن السلطان فقط." إحياء علوم الدين(7/1222)
وفي ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله:".. أن الأمكنة والأزمنة التي تفتر فيها النبوة لا يكون حكم من خفيت عليه آثار النبوة حتى أنكر ما جاءت به خطأ كما يكون حكمه في الأمكنة والأزمنة التي ظهرت فيها آثار النبوة وذكرنا حديث حذيفة الذي فيه يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا صوما ولا حجا إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقولان أدركنا آباءنا وهم يقولون لا إله إلا الله فقيل لحذيفة ما يغني عنهم قول لا إله إلا الله وهم لا يعرفون صلاة ولا زكاة ولا صوما ولا حجا قال تنجيهم من النار تنجيهم من النار " بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية (ص 311)
وقال أيضا : " ومع هذا فقد يكثر أهل الأهواء في بعض الأمكنة والأزمنة ؛ حتى يصير بسبب كثرة كلامهم مكافئا - عند الجهال - لكلام أهل العلم والسنة ؛ حتى يشتبه الأمر على من يتولى أمر هؤلاء ؛ فيحتاج حينئذ إلى من يقوم بإظهار حجة الله وتبيينها حتى تكون العقوبة بعد الحجة . وإلا فالعقوبة قبل الحجة ليست مشروعة" مجموع الفتاوى (3/240)
وقال أيضا : " ... وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا ؛ بل وإماما ، وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكن ذلك ؛ بل هناك من يمنعه ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها" منهاج السنة (5/113) .
وقال أيضا : "فإن الإمام أحمد مثلا قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم يكفرون كل من لم يكن جهميا موافقا لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر، فلا يولونه ولاية ولا يفتكونه من عدو ولا يعطونه شيئا من بيت المال ولا يقبلون له شهادة ولا فتيا ولا رواية ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة والافتكاك من الأسر وغير ذلك. فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان، ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان، ومن كان داعيا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه أو حبسوه.
ومعلوم أن هذا أغلظ التجهم، فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب.
ثم أن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة. وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قوما معينين، فإما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل، فيقال: من كفر بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم" اهـ مجموع الفتاوى(12/488)
التعاون لإقامة الواجبات مع المبتدعة و الفساق عند تعذر إقامتها إلا معهم:
قال العز بن عبد السلام رحمه الله :" وقد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان لا من جهة كونه معصية ، بل من جهة كونه وسيلة إلى مصلحة وله أمثلة منها ما يبذل في افتكاك الأسارى فإنه حرام على آخذيه مباح لباذليه ومنها أن يريد الظالم قتل إنسان مصادرة على ماله ويغلب على ظنه أنه يقتله إن لم يدفع إليه ماله ، فإنه يجب عليه بذل ماله فكاكا لنفسه ، ومنها أن يكره امرأة على الزنا ولا يتركها إلا بافتداء بمالها أو بمال غيرها فيلزمها ذلك عند إمكانه .
وليس هذا على التحقيق معاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان وإنما هو إعانة على درء المفاسد فكانت المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان فيها تبعا لا مقصودا ." اهـ قواعد الأحكام في مصالح الأنام(1/109-110)
قال ابن تيمية رحمه الله : " الهجران قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التي هي ظلم وذنب وإثم وفساد وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد والنهي عن المنكر وعقوبة الظالمين لينزجروا ويرتدعوا . وليقوى الإيمان والعمل الصالح عند أهله . فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه وتحضها على فعل ضد ظلمه : من الإيمان والسنة ونحو ذلك . فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد ولا انتهاء أحد ؛ بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مأمورا بها كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك : أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية . فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي . وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة فلو ترك رواية الحديث عنهم لا ندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم . فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب : كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرا من العكس . ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل " مجموع الفتاوى(28/212)
وقد نبه شيخ الإسلام رحمه الله أن التعصب المذهبي من أسباب تسلط الكفار فقال :
" وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها حتى تجد المنتسب إلى الشافعي يتعصب لمذهبه على مذهب أبي حنيفة حتى يخرج عن الدين والمنتسب إلى أبي حنيفة يتعصب لمذهبه على مذهب الشافعي وغيره حتى يخرج عن الدين والمنتسب إلى أحمد يتعصب لمذهبه على مذهب هذا أو هذا . وفي المغرب تجد المنتسب إلى مالك يتعصب لمذهبه على هذا أو هذا . وكل هذا من التفرق والاختلاف الذي نهى الله ورسوله عنه . وكل هؤلاء المتعصبين بالباطل المتبعين الظن وما تهوى الأنفس المتبعين لأهوائهم بغير هدى من الله مستحقون للذم والعقاب . وهذا باب واسع لا تحتمل هذه الفتيا لبسطه ؛ فإن الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع" مجموع الفتاوى (22/254)
ودليل ما قاله ابن تيمية رحمه الله قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم :" إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا " رواه مسلم (7440).
كتبـــــه
أخوكم ومحبكم في الله عبد الجليل مبرور غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين