آخر المواضيع

الثلاثاء، 15 أكتوبر 2013

وقت صلاة الجمعة:




اختَلَف العلماء في وقت صلاة الجمعة على قوليْن:
فقيل: إنَّ وقت وجوبِها هو وقت الزَّوال، وهو وقت الظُّهر، ولا تصحُّ قَبْلَه، وهو قول الجمهور من الأحناف[16] والمالكيَّة[17] والشافعية[18] والظاهريَّة[19].


وقيل: إنَّ وقت وجوبِها هو وَقْت الزَّوال، ويجوز أن تُصَلَّى قبل الزَّوال، وأوَّل وقتها هو أول وقت صلاة العيد، وهو مذهب الحنابلة[20]، وهو الرَّاجح.

أمَّا آخِر وقتها فهو آخِرُ وقت الظُّهر عند الجمهور، وهو الرَّاجح، والأفضل أداؤها وقْتَ الزَّوال خُروجًا من الخِلاف.

أدلَّة القائلين: إنَّ وقتها وقت الزَّوال، وهو وقت الظهر، ولا تصِحُّ قبله:
 عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - "أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يُصَلِّي الجمعة حين تَمِيل الشَّمس"[21].

 عن سلمة بن الأكوع، قال: "كُنَّا نُجَمِّع مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتَبَّع الفيء"[22].

 عن أنس بن مالك قال: "كنَّا نُبَكِّر بالجمعة، ونَقِيل بعد الجمعة"[23].

 فظاهِرُه أنَّهم كانوا يصلُّون الجمعة باكِرَ النهار، لكن طريق الجمع أولى من دَعْوى التَّعارض، وقد تقَرَّر فيما تقدَّم أن التبكير يُطْلَق على فِعْل الشَّيء في أوَّل وقْتِه أو تقديمه على غيره، وهو المراد هنا، والمعنى أنَّهم كانوا يَبْدؤون بالصَّلاة قبل القيلولة، بخلاف ما جَرَت به عادَتُهم في صلاة الظُّهر في الْحرِّ، فإنَّهم كانوا يقيلون ثم يُصلُّون؛ لمشروعيَّة الإبراد، ولهذه النكتة أورد البخاريُّ طريق حُمَيد عن أنس عَقِب طريق عثمان بن عبدالرحمن عنه، وسيأتي في الترجمة التي بعد هذه التعبيرُ بالتبكير، والمراد به الصَّلاة في أوَّل الوقت وهو يؤيِّد ما قلناه، قال الزَّينُ بن المنير في "الحاشية": "فسَّرَ البخاريُّ حديث أنس الثاني بحديث أنس الأول؛ إشارةً منه إلى أنَّه لا تعارُضَ بينهما"[24].

 عن يَحْيَى بن سعيد أنه سأل عَمْرَة عن الغُسْل يوم الجمعة، فقالت: قالَتْ عائشة - رضي الله عنها -: "كان الناس مهَنَةَ أنفُسِهم، وكانوا إذا راحوا إلى الجُمعة راحوا في هَيْئتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم"[25].

 استدلَّ البخاريُّ بقوله: "راحُوا" على أنَّ ذلك كان بعد الزَّوال؛ لأنَّه حقيقة الرَّواح كما تقدَّم عن أكثر أهل اللُّغة، ولا يُعارِض هذا ما تقدَّم عن الأزهريِّ أنَّ المراد بالرَّواح في قوله: ((مَن اغتسل يوم الجمعة ثُمَّ راح)) الذَّهابُ مُطْلقًا؛ لأنَّه إمَّا أن يكون مَجازًا أو مشتركًا، وعلى كلٍّ من التقديرَيْن فالقرينة مخصِّصة، وهي في قوله: ((مَن راح في الساعة الأولى))، قائمة في إرادة مُطْلَق الذهاب، وفي هذا قائمة في الذَّهاب بعد الزَّوال؛ لما جاء في حديث عائشة المذكور في الطريق التي في آخر الباب الذي قبل هذا، حيث قالت: "يُصيبهم الغُبار والعَرَق"؛ لأنَّ ذلك غالِبًا إنَّما يكون بعدما يشتدُّ الحرُّ، وهذا في حال مجيئهم من العوالي، فالظَّاهر أنَّهم لا يُصَلُّون إلى المسجد إلاَّ حين الزوال أو قريبًا من ذلك، وعرف بهذا توجيه إيراد حديث عائشة في هذا الباب[26].

 عن أبي سُهَيل، عن أبيه، قال: "كنتُ أرى طَنْفسة لِعَقيل بن أبي طالب يوم الجمعة تطرح إلى جدار المسجد الغربيِّ، فإذا غشي الطَّنفسةَ كُلَّها ظلُّ الجدار، خرج عمر بن الخطاب، فصلَّى الجمعة، قال: ثم نَرْجَع بعد الجمعة فنقيل قائلة الضُّحاء"[27].

 قال ابن عبدالبرِّ: "ولِهذا ومِثْلِه أَدخل مالكٌ حديث طنفسة عقيل؛ لِيُوضِّح أنَّ وقت الجمعة وقت الظهر؛ لأنَّها مع قصر حيطانهم وعرض الطَّنفسة لا يَغْشاها الظِّلُّ إلاَّ وقد فاء الفَيْء، وتمكَّن الوقت، وبان في الأرض دُلوك الشَّمس، وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار الذين تَدُور الفَتْوى عليهِم"[28].

 عن ابن عبَّاس قال: "هجَّرْتُ يوم الجمعة، فلمَّا زالت الشمسُ خرج عُمَر، فصَعِد المنبر، وأخَذ المؤذِّن في أذانه"[29].

 وأمَّا المرْويُّ عن علي: فمِن طريق إسماعيل بن سُمَيع، عن أبي رزين، قال: "كُنَّا نُصلِّي مع عليٍّ الجمعة، فأحيانًا نَجِد فيئًا، وأحيانًا لا نَجِده"[30].

 وأمَّا المروِيُّ عن النُّعمان بن بشير وعمْرِو بن حُرَيث: فخرَّجه ابن أبي شيبة من طريق سَمَّاك، قال: "كان النُّعمان بن بشير يُصَلِّي بنا الجمعة بعدما تزول الشمس"[31].

- ومن طريق الوليد بن العيزار، قال: "ما رأيتُ إمامًا كان أحسن صلاة للجمعة من عمرو بن حُرَيث، وكان يُصَلِّيها إذا زالت الشَّمس"[32]، وقد روي هذا - أيضًا - عن معاذ بن جبل، لكن مِن وجه منقطع.

- ومن جهة أخرى، فالجمعة بدَلٌ عن الظُّهر، فوجب أن يكون وقتُها وقْتَ الظهر، وافترَقَتْ مع صلاة العيد في كون صلاة العيد لا تُصلَّى بعد الزوال، فوجَب إلحاقُها بالزوال؛ لأنه أنسب.

أدلَّة القائلين: يجوز أن تُصَلَّى الجمعة قبل الزوال، وأوَّل وقتها هو أوَّل وقت صلاة العيد:
 عن سَهْل بن سعد أنه قال: "ما كُنَّا نقيل ولا نتغدَّى إلاَّ بعد الجمعة"، ولا يُسمَّى غداء ولا قائلة إلاَّ ما كان قبل الزَّوال.

 عن سلمة بن الأكوع أنه قال: "كنا نُصَلِّي مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الجمعة، ثم ننصرف وليس للحِيطان ظِلٌّ نستظلُّ به".

 قال أبو سهيل: "إنا كنَّا نرجع من الجمعة فنقيل قائلة الضُّحى".

 وأُجيبَ بأنَّ الجمهور حَمل هذه الأحاديث على المبالغة في تعجيلها، وأنَّهم كانوا يُؤَخِّرون الغداء والقيلولة في هذا اليوم إلى ما بعد صلاة الجمعة؛ لأنَّهم ندبوا إلى التَّبكير إليها، فلو اشتغلوا بشيء من ذلك قبْلَها خافوا فوْتَها أو فوت التبكير إليها، أمَّا حديث سلمة فمعناه ليس للحيطان ظلٌّ طويل بحيث يَستظلُّ به المارُّ؛ لأنَّ حيطان المدينة كانت قصيرة، فلا يظهر الظلُّ الذي يستظلُّ به المارُّ إلاَّ بعد زمان طويل.

 ولأنها عيد؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((قد اجتمع لكم في هذا اليوم عيدان))، فتَجوز قبل الزَّوال كصلاة العيد.

 وأُجِيبَ بأن الجمعة بدَلٌ عن الظُّهر، فوجب أن يكون وقْتُها وقْتَ الظُّهر، وافترقت مع صلاة العيد في كون صلاة العيد لا تُصَلَّى بعد الزوال، فوجب إلحاقها بالزوال لأنَّه أنسب، ولا يلزم من تسمية يوم الجمعة عيدًا أن يَشْتمل على جميع أحكام العيد، بدليل أنَّ يوم العيد يَحْرم صومه مُطْلقًا سواء صام قبله أو بعده بِخِلاف يوم الجمعة باتِّفاقهم.

 وصحَّ عن عثمان أنه صلَّى الجمعة بالمدينة، وصلَّى العصر بِمَلل[33]، وبين المدينة وملَلٍ اثنان وعشرون ميلاً، وقيل: ثمانية عشر ميلاً، ويبعد أن يَلْحق هذا السَّائر بعد زوال الشَّمس.

 وأُجيب بأن هذا كما قاله مالك: إنَّه هجَّر بالجمعة، فصلاَّها في أول الزوال، ثم أسرع السَّير، فصلَّى العصر ((بِمَلل)) ليس في أوَّل وقتها - والله أعلم - ولكنَّه صلاَّها والشمس لَمْ تغرب، ولعلَّه صلاَّها ذلك اليومَ - لِسُرعة السَّير - والشمس بيضاء نقيَّة، وليس في هذا ما يدلُّ على أن عثمان صلى الجمعة قبل الزوال، كما زعم من ظنَّ ذلك، واحتج بحديث مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن ابن أبي سليط قال: "كنا نُصَلِّي مع عثمان بن عفَّان الجمعة فننصرف وما للجدر ظِل"، وهذا الخبر الثاني عن عثمان ليس عند القعنبي، ولا عند يحيى بن يحيى صاحبنا، وهُما مِن آخر مَن عرض على مالك "الْمُوطَّأ".

وهذا وإن احتمل ما قال، فيحتمل أن يكونَ عثمان صلَّى الجمعة في أوَّل الزَّوال، ومعلومٌ أنَّ الحجاز ليس للقائم فيها كبيرُ ظلٍّ عند الزَّوال، وقد ذكر أهل العلم بالتعديل أنِّ الشمس بمكِّة تزول في حُزَيران على دون عشرة أقدام، وهذا أقلُّ ما تزول الشمس عليه في سائر السَّنَة بمكَّة والمدينة، فإذا كان هذا أو فوقه قليلاً فأيُّ ظل يكون للجُدُر حينئذٍ بالمدينة أو مكَّة، فإذا احتمل الوجهين لم يَجُز أن يضاف إلى عثمان أنَّه صلى الجمعة قبل الزوال إلاَّ بيقين، ولا يقين مع احتمال التأويل، والمعروف عن عثمان في مثل هذا أنه كان مُتَّبِعًا لِعُمر لا يخالفه، وقد ذكرنا عن علي أنه كان يُصَلِّيها بعد الزوال، وهو الذي يصحُّ عن سائر الخلفاء، وعليه جماعة العلماء، والحمد لله[34].

 عن جابر بن عبدالله قال: "كُنَّا نصلِّي مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثُمَّ نرجع فنريح نواضِحَنا"، قال حسَنٌ: فقلت لِجَعفر: في أيِّ ساعة تلك؟ قال: زوال الشَّمس"[35]، وإذا كان رجوعهم زوال الشمس دلَّ على أنه كان يفعلها قبل الزوال يقينًا.

 وأُجيب بأنَّ حديث جابر فيه إخبارٌ بأنَّ الصلاة والرَّواح كانا حين الزوال، لا أن الصلاة كانتْ قبْلَه.

 عن عبدالله بن سيدان، قال: "شهِدْتُ الجمعة مع أبي بكر الصدِّيق، فكانت خُطْبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدْتُها مع عمر، فكانت صلاته وخطبته إلى أن نَقُول: انتصف النهار، ثم شهدتُها مع عثمان، فكانت صلاته وخطبته إلى أن نقول: مال النَّهار، فما رأيت أحدًا عاب ذلك، ولا أنكره"[36].

 وأجيبَ بأنَّ رجاله ثقاتٌ إلاَّ عبدالله بن سِيدان - وهو بكسر المهملة بعدها تحتانية ساكنة - فإنَّه تابعيٌّ كبير، إلاَّ أنه غيرُ مَعْرُوفِ العَدالة، قال ابن عديٍّ: شبه الْمَجهول، وقال البخاري: لا يُتابَع على حديثه، بل عارضَه ما هو أقوى منه، فروى ابن أبي شيبة من طريق سُوَيد بن غفلة أنه صلَّى مع أبي بكر وعُمَر حين زالَتِ الشَّمس؛ إسناده قوي، وفي "الموطَّأ" عن مالك بن أبي عامر قال: "كنتُ أرى طَنْفَسة لعقيل بن أبي طالب تُطْرَح يوم الجمعة إلى جدار المسجد الغربِيِّ، فإذا غشِيَها ظلُّ الجدار خرج عمر"؛ إسناده صحيح، وهو ظاهرٌ في أنَّ عمر كان يَخْرج بعد زوال الشمس، وفَهِم منه بعضُهم عكس ذلك، ولا يتَّجه إلاَّ إنْ حُمِلَ على أنَّ الطَّنفسة كانت تُفْرَش خارج المسجد وهو بعيد، والذي يظهر أنَّها كانت تَفْرش له داخل المسجد، وعلى هذا فكان عُمَر يتأخَّر بعد الزَّوال قليلاً، وفي حديث السَّقيفة عن ابن عبَّاس قال: "فلمَّا كان يوم الجمعة وزالت الشمس، خرج عُمَر، فجَلَس على المنبر"[37].

 عن عبدالله بن سلمة، قال: صلَّى بنا عبدالله بن مسعود الجمعة ضُحًى، وقال: خشيت عليكم الْحَر.

 عن سعيد بن سويد، قال: صلَّى بنا معاوية الجمعة ضُحًى[38].

 عن بلال العبسي، أنَّ عمَّارًا صلَّى للنَّاس الجمعة، والناس فريقان، بعضهم يقول: زالت الشمس، وبعضهم يقول: لم تَزُل[39].

 عن مجاهد، قال: ما كان للناس عيدٌ إلاَّ أوَّل النهار[40].

 عن عطاء، قال: كان مَن كان قبلكم يُصَلُّون الجمعة، وإنَّ ظلَّ الكعبة كما هو[41].

 عن ابن جريج، عن عطاء، قال: كلُّ عيد حين يمتدُّ الضُّحى: الجمعة، والأضحى، والفطر، كذلك بلَغَنا[42].

جمع : أ . عبد الجليل مبرور

====================


[16]"بَدائع الصَّنائع"، (1/ 270) "شرْح فَتْح القدير" (2/ 54) "مَراقي الفلاح" (191) "الاختيار لتعليل المختار" (1/ 82) "البِناية شرْح الهداية" (3/ 59).
[17]"الكافي في فقه أهل المدينة" (70) "المنتقَى" (1/ 19) "القوانين الفقهيَّة" (64) "بداية المجتَهِد" (1/ 365) "مواهب الجليل" (2/ 517).
[18]"الأُمّ" (2/ 386) "المجموع" (4/ 377) "مُغْني المحتاج" (1/ 418) "حواشي تحفة المنهاج" (2/ 419) "حاشية الشرقاوي على شرح التحرير" (1/ 290) "حاشية البيجرمي على الخطيب" (2/ 405).
[19]"المُحلَّى" (5/ 42).
[20] "الانتصار في المسائل الكبار" (2/ 575) "المُغْني" (3/ 159) "كشَّاف القِناع" (1/ 501) "الشَّرح الكبير مع الإنصاف" (5/ 186) "المُحرَّر في الفقه" (1/ 143) "شرح منتهى الإرادات" (2/ 11).
قال النوويُّ في "المجموع" (4/ 380) : "قال العبدريُّ: قال العلماء كافَّة: لا تجوز صلاة الجمعة قبل الزوال، إلاَّ أحمد، ونقل الماورديُّ في "الحاوي" عن ابن عباس كقول أحمد، ونقله ابن المنذر عن عطاء وإسحاق، "قال: وروى ذلك بإسناد لا يثبت عن أبي بكر وعمر وابن مسعود ومعاوية".
[21]البخاري (904).
[22]البخاري (4168) مسلم (860).
[23]البخاري (905).
[24]"فتح الباري" (2/ 388).
[25]البخاري (903).
[26]"فتح الباري" (2/ 388).
[27]مالك في "الموطَّأ" (13).
[28]"الاستذكار" (1/ 250).
[29]"مُصنَّف عبدالرَّزاق" (5223).
[30]"مُصنَّف عبدالرَّزاق" (5230) وابن أبي شيبة (5186).
[31]"مصنَّف ابن أبي شَيْبة" (5187).
[32]"مصنَّف ابن أبي شَيْبة" (5188).
[33] مالك (14).
[34]"الاستذكار" (1/ 254).
[35]مسلم (858).
[36]أخرجه ابن أبي شيبة (5174) وعبد الرزاق (5224).
[37]"الفَتْح" (387).
[38]"مصنَّف ابن أبي شَيْبة" (5177).
[39]"مصنَّف ابن أبي شَيْبة" (5182).
[40]"مصنَّف ابن أبي شَيْبة" (5173).
[41]"مصنَّف ابن أبي شَيْبة" (5175).
[42]"مُصنَّف عبدالرَّزاق" (5222).