-قال تعالى : ﴿وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة﴾([1]) ، وقال تعالى في شأن الكفار : ﴿كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون﴾([2]) ، وقال تعالى ﴿للذين أحسنوا الحسنى وزيادة﴾([3]) والمراد بالزيادة رؤيته تعالى كما سيأتي في الحديث الصحيح إن شاء الله تعالى.
-وأما الأدلة من السنة ، فمنها ما رواه مسلم عن صهيب – رضي الله عنه- قال : قال رسول الله r : (إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله عز وجل : تريدون شيئاً أزيدكم ؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ؟) قال : (فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم) ثم تلا هذه الآية ﴿للذين أحسنوا الحسنى وزيادة﴾([4]) .
وفي الصحيحين عن جرير بن عبدالله –رضي الله عنه- قال : كنا جلوساً عند النبي r فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال : (إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا([5]) لا تضامون([6]) في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا) وفيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن أناساً قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله r : (هل تضارون([7]) في رؤية القمر ليلة البدر ؟ ) قالوا : لا ، قال : (فإنكم ترونه كذلك) .
وأما المنقول عن الصحابة في ذلك فمنه أن أبا بكر رضي الله عنه قرأ ﴿للذين أحسنوا الحسنى وزيادة﴾([8]) فقالوا ما الزيادة يا خليفة رسول الله - r - ؟ قال : النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى ([9]) . وقال علي رضي الله عنه : من تمام النعمة دخول الجنة والنظر إلى وجه الله تبارك وتعالى في جنته .
وقيل لابن عباس –رضي الله عنهما- : كل من دخل الجنة يرى ربه عز وجل ؟ قال : نعم .
-وأما المنقول عن التابعين فمنه ما نقل عن سعيد بن المسيب والحسن وعبدالرحمن بن أبي ليلى وعكرمة ومجاهد وقتادة والسدي وكعب وغيرهم رحمهم الله تعالى أنهم قالوا : الزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل .
-وأما طبقة الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة والعلماء فقد نقل عن مالك ابن أنس رحمه الله أنه قال : الناس ينظرون إلى ربهم عز وجل يوم القيامة بأعينهم وسئل رحمه الله عن قوله عز وجل : ﴿وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة ﴾([10]) أتنظر إلى الله عز وجل ؟ قال : نعم . قال أشهب : إن أقواماً يقولون : تنظر ما عنده قال : بل تنظر إليه نظراً . وقال الأوزاعي رحمه الله : إني لأرجو أن يحجب الله عز وجل جهماً وأصحابه عن أفضل ثوابه الذي وعده الله أولياءه حين يقول : ﴿وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة ﴾فجحد جهم وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعده الله تعالى أولياءه . وقال سفيان بن عيينة : من لم يقل أن القرآن كلام الله وأن الله يرى في الجنة فهو جهمي . وقال الشافعي رحمه الله وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها : ما تقول في قول الله عز وجل : ﴿كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ﴾([11]) ؟ فقال رحمه الله : لما أن حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا . وقال المزني : سمعت الشافعي يقول في قوله عز وجل : ﴿كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ﴾: فيها دليل على أن أولياء الله يرون ربهم تبارك وتعالى يوم القيامة .
وسئل أحمد رحمه الله : أليس ربنا تبارك وتعالى يراه أهل الجنة ؟ أليس تقول بهذه الأحاديث ؟ قال أحمد : صحيح . وقال رحمه الله في قول الله عز وجل : ﴿كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ﴾ولا يكون حجاب إلا لرؤية ، أخبر الله سبحانه وتعالى أن من شاء الله ومن أراد أن يراه والكفار لا يرونه .
*بيان أنه لا تعارض بين ما ثبت في رؤية الله عز وجل وقوله تعالى : ﴿لا تدركه الأبصار ﴾([12]) أو قوله لموسى ﴿لن تراني ﴾([13]) :
لا منافاة بين الرؤية المثبتة وبين هاتين الآيتين ، فإن الإدراك غير الرؤية ، فالإدراك يعني الإحاطة ، أما الله تعالى فلا تحيط به الرؤية كما لا يحيط به العلم ﴿ولا يحيطون به علماً﴾([14]) ، وإن كان سبحانه يرى في الجنة . والبعض يجعل قوله تعالى : ﴿لا تدركه الأبصار ﴾بمعنى لا تراه ، أي في الدنيا ([15]) . أما قوله تعالى لموسى لما قال : ﴿رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ﴾فهذا في الدنيا وإلا لقال إني لا أرى ([16]) ولا يمكن حمل الآية على غير ذلك وإلا ضربنا القرآن بعضه بعض ، فقد سبق قوله تعالى : ﴿وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة ﴾وقوله عز وجل : ﴿للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾وتفسير النبي r وصحابته لها بالرؤية وقوله تعالى : ﴿كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ﴾وهذا بالإضافة إلى الأحاديث الصحيحة التي أثبتت الرؤية بعبارات صريحة لا تحتمل التأويل .
نقلا عن مختصر معارج القبول لهشام بن عبد القادر آل عقدة
([1]) القيامة : 22 ، 23 .
([2]) المطففين : 15 .
([3]) يونس : 26 .
([4]) قال النووي رحمه الله : (هذا الحديث هكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن ابن أبي ليلة عن صهيب عن النبي r قال أبو عيسى الترمذي وأبو مسعود الدمشقي وغيرهما : لم يروه هكذا مرفوعاً عن ثابت غير حماد بن سلمة ورواه سليمان بن المغيرة وحماد بن زيد وحماد بن واقد عن ثابت ابن أبي ليلة من قوله ليس فيه ذكر النبي r ولا ذكر صهيب . وهذا الذي قاله هؤلاء ليس بقادح في صحة الحديث فقد قدمناه في الفصول أن المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه الفقهاء وأصحاب الأصول والمحققون من المحدثين وصححه الخطيب البغدادي أن الحديث إذا رواه بعض الثقات متصلاً وبعضهم مرسلاً أو بعضهم مرفوعاً حكم المتصل وبالمرفوع لأنهما زيادة ثقة وهي مقبولة عند الجماهير من كل الطوائف والله أعلم) . صحيح مسلم بشرح النووي جـ 3 ص17 .
([5]) هذا من تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي فليس من التشبيه المنهي عنه .
([6]) تضامُون وتضامُّون بالتشديد والتخفيف ، بالتشديد من الضم ومعناه تُزاحمون ، وبالتخفيف من الضَّيم : أي لا يظلم بعضكم بعضاً . انظر لسان العرب ص2629 .
([7]) يُحكى بالتشديد (تضاروُّن) وبالتخفيف (تضارُون) ، وبالتشديد معناه تختلفون وتتجادلون ، وبالتخفيف من ضاره يضيره ضيراً : أي ضره . انظر النهاية جـ3 ص82 .
([8]) يونس : 26 .
([9]) صححه الألباني عنه ، تخريج السنة 473، 474.
([10]) القيامة : 22،23.
([11]) المطففين : 15.
([12]) الأنعام : 103.
([13]) طه : 110.
([14]) طه : 110.
([15]) ولعلّ الأول أقرب ، إذ أن سياق الآية أقرب إلى تقرير صفة لازمة له سبحانه ، بخلاف قوله تعالى لموسى : ﴿لن تراني﴾ ، فلم يقل لن أرى أو لا أرى ، كما قال هنا : ﴿لا تدركه الأبصار﴾ وذلك لأن المقصود ليس تقرير أن الله لا يرى وإنما نفى ذلك في الدنيا : والله أعلم . ومن استخدام= =(لن) للنفي في الدنيا قوله تعالى : ﴿ولن يتمنوه أبداً﴾ [البقرة : 95] أي الموت مع أنه عز وجل قال : ﴿ ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك﴾ [الزخرف :77] فالمراد نفي ذلك في الدنيا . انظر شرح الواسطية للشيخ محمد خليل هراس ص73.
([16]) ويضاف إلى هذا أن الله عز وجل علق الرؤية على استقرار الجيل ﴿قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ﴾ والمعلق على الممكن ممكن ، أنه تعالى تجلى بالفعل للجبل ﴿ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ﴾ فلا مانع أن يتجلى للإنسان وهو أولى بذلك من الجماد ولكن بعد أن يهيئه الله لذلك في الجنة ، ولو كانت رؤية الإنسان لربه مستحيلة ما سألها موسى عليه السلام وهو من الأنبياء الذين هم أعلم الخلق بربهم . انظر شرح محمد خليل هراس حفظه الله للعقيدة الواسطية ص73، وتفصيله في حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم رحمه الله ص196-198.