آخر المواضيع

السبت، 28 ديسمبر 2013

الكلام على القرائتين في الآية "وهو يُطعِم ولا يُطعَم" من كلام شيخ الإسلام.

 
يقول ابن تيمية في جامع المسائل (1/111) :
في قوله تعالى (أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قُل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين (14)) .

القراءة المتواترة التي بها يقرأ جماهير المسلمين قديمًا وحديثًا - وهي قراءة العشرة وغيرهم -: "وهو يُطعِم ولا يُطعَم". ورُوِي عن طائفة أنهم قرأوا: "وهو يُطعِم ولا يَطْعَم" بفتح الياء. قال أبو الفرج : وقرأ عكرمة والأعمش: "ولا يَطْعَم" بفتح الياء. قال الزجاج : وهذا الاختيار عند البُصَراء بالعربية، ومعناه: وهو يَرزق ويُطعِم ولا يأكل.

قلتُ: الصواب المقطوع به أن القراءة المشهورة المتواترة أرجحُ من هذه، فإنّ تلك القراءة لو كانت أرجحَ من هذه لكانت الأمة قد نَقَلتْ بالتواتر القراءةَ المرجوحةَ. والقراءة التي هي أحبُّ القراءتين إلى الله ليست معلومةً للأمة، ولا مشهودًا بها على الله، ولا منقولةً نقلاً متواترًا، فتكون الأمة قد حفظت المرجوح، ولم تحفظ الأحبَّ إلى الله الأفضلَ عند الله، وهذا عيب في الأمة ونقص فيها.
ثمّ هو خلاف قوله (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)) ، فإنه على قولِ هؤلاء يكون الذكر الأفضل الذي نزله ما حفظه حفظًا يُعلَم به أنه منزَّل، كما يعلم الذكر المفضول عندهم.

وأيضًا فللناس في هذه القراءة وأمثالها مما لم يتواتر قولان :
منهم من يقول:
هذه تشهد بأنها كذب، قالوا: وكل مالم يُقطَع بأنه قرآن فإنه يُقطَع بأنه ليس بقرآن. قالوا: ولا يجوز أن يكون قرآنٌ منقولاً بالظنّ وأخبارِ الآحاد، فإنّا إن جوّزنا ذلك جاز أن يكون ثَمَّ قرآن كثير غيرُ هذا لم يتواتر. قالوا: وهذا مما تُحِيلُه العادة، فإن الهمم والدواعي متوفرة على نقل القرآن، فكما لا يجوز اتفاقُهم على نقل كذبٍ، لا يجوز اتفاقهم على كتمان صدقٍ.
فعلى قولِ هؤلاء يُقطَع بأن هذه وأمثالَها كذب فيَمتنعُ أن يكون أفضل من القرآن الصدق.

والقول الثاني: قول من يُجَوِّز أن تكون هذه قرانًا وإن لم يُنقَل بالتواتر. وكذلك يقول هؤلاء في كثير من الحروف التي يُقرَأُ بها في السبعة والعشرة، لا يُشتَرط فيها التواتر. وقد يقولون: إنّ التواتر منتفٍ فيها أو ممتنع فيها. ويقولون: المتواتر الذي لا ريب فيها ما تضمنه مصحف عثمان من الحروف، وأما كيفيات الأداء مثل تليين الهمزة، ومثل الإمالة والإدغام، فهذه مما يسوغُ للصحابة أن يقرأوا فيها بلغاتهم، لا يجب أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلفَّظ بهذه الوجوه المتنوعة كلها، بل القطع بانتفاء هذا أولى من القطع بثبوته. وما كان تلفظه به على وجهين كلاهما صحيح المعنى، مثل قوله: (وما الله بغافل عما تعملون (85)) ويعملون ، وقوله: (إلا أَن يَخَافَا ألا يُقِيمَا حُدُوَد الله) إلاّ أن يُخافَا أن لا يقيما حدود الله ، فهذه يُكتفَى فيها بالنقل الثابت وإن لم يكن متواترًا، كما يُكتفَى بمثل ذلك في إثبات الأحكام والحلال والحرام، وهو أهمُّ من ضبط الياء والتاء، فإن الله سبحانه وتعالى ليس بغافلٍ عما يعمل المخاطَبون بالقرآن، ولا عمّا يعمل غيرهم، وكلا المعنيين حقّ قد دلَّ عليه القرآن في مواضع، فلا يضرّ أن لا يتواتر دلالةُ هذا اللفظ عليه. بخلاف الحلال والحرام الذي لا يُعلَم إلاّ بالخبر الذي ليس بمتواتر.
والعادة والشرع أوجب أن يُنقَل القرآن نقلاً متواترًا، كما نُقِلتْ جُمَلُ الشريعة نقلاً متواترًا، مثل إيجاب الصلوات الخمس، وأن صلاة إنها من صلاة النهار، وأنها ركعتان حضرًا وسفرًا، والمغرب ثلاث حضرًا وسفرًا، ونحو ذلك.
ثمّ كثير من الأحكام التي يعملها الخاصَّة دون العامة، تُعلَم بالأخبار التي يعلمها الخاصة، كذلك بعض الحروف التي يضبطها الخاصة من القرّاء قد تكون من هذا الباب.
وعلى هذا الوجه فيمتنع أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ بتلك القراءة أكثر، ويُعلِّمها لأمته أكثر، وجماهير الأمة لم تنقُلْها ولم تَعْرِفها، فنقلُ جمهور الأمة لها خلفًا عن سلف تُوجب أنها كانت أكثر وأشهر من قراءة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن كان قرأ بالأخرى، وإن كان لم يقرأ بالأخرى لم تعدل بهذه. فنحن نشهد شهادةً قاطعةً أنه قرأ بهذه، وأنّ تلك إمّا أنه لم يَقرأ بها أو قرأ بها قليلاً، والغالب عليه قراءته بهذه، لأنه يمتنع عادةً وشرعًا أن تكون قراءتُه بتلك أكثر، وجمهور الأمة لم تنقل عنه ما هو أغلبُ عليه، ونقل عنه ما كان قليلاً منه.
فهذا من جهة نقل إعراب القرآن ولفظه.