آخر المواضيع

الجمعة، 31 يناير 2014

ما حكم زكاة المستغلات ؟

الكاتب : د. يوسف القرضاوي حفظه الله .

المستغلات: هي الأموال التي لا تجب الزكاة في عينها، ولم تتخذ للتجارة ولكنها تتخذ للنماء، فتغل لأصحابها فائدة وكسبًا بواسطة تأجير عينها، أو بيع ما يحصل من إنتاجها.

فما يؤجر: مثل الدور والدواب التي تكرى بأجرة معينة، ومثل ذلك الحلي الذي يكرى وغيره، وفي عصرنا يتمثل في العمارات ووسائل النقل وغيرها.
وما ينتج ويباع نتاجه: مثل البقر والغنم غير السائمة التي تُتخذ للكسب فيها، ببيع لبنها وصوفها أو تسمينها أو غير ذلك ..وأهم منها الآن المصانع التي تنتج ويُباع إنتاجها في الأسواق.
وقد اخترنا في الفصل السادس أن تقاس المنتجات الحيوانية على العسل، ويؤخذ منها العشر من الصافي، لأنها متولدة من حيوان لا تجب الزكاة في أصله.
ولهذا أرى أن تستثنى من المستغلات التي نذكرها في هذا الفصل، وإن أدخلها بعض الفقهاء فيه.
والفرق ما بين ما يتخذ من المال للاستغلال وما يتخذ للتجارة: أن ما اتخذ للتجارة يحصل الربح فيه عن طريق تحول عينه من يد إلى يد أمَّا ما اتُّخِذ للاستغلال فتبقى عينه، وتتجدد منفعته.
وعلى كل حال، فإن معرفة الحكم في المستغلات أمر مهم وخاصة في عصرنا، بعد أن تعددت أنواع المال النامي فيه تعددًا واضحًا، فلم يعد مقصورًا على الماشية والنقود وسلع التجارة والأرض الزراعية.
فمن الأموال النامية في عصرنا: العمارات التي تعد للكراء والاستغلال، والمصانع التي تعد للإنتاج، والسيارات والطائرات والسفن التي تنقل الركاب والبضائع والأمتعة، وغير ذلك من رؤوس الأموال الثابتة أو شبه الثابتة وبعبارة أدق: رؤوس الأموال الغلة النامية غير المتداولة التي تدر دخلاً وفيرًا على أصحابها، فماذا تقول شريعة الإسلام وفقهاؤها في زكاة هذه الأشياء؟
إن الجواب عن هذا السؤال يختلف باختلاف وجهة المضيقين والموسعين في إيجاب الزكاة.
وجهة المضيقين في إيجاب الزكاة
أما الذين يميلون إلى التضييق في الأموال التي تجب فيها الزكاة، فيقولون:
1-إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حدد الأموال التي تجب فيها الزكاة، فلم يجعل منها ما يُستغل أو ما يُكرى من العقارات والدواب والآلات ونحوها، والأصل براءة الناس من التزام التكاليف، ولا يجوز الخروج عن هذا الأصل، إلا بنص صريح عن الله ورسوله، ولم يوجد في مسألتنا.
2- يؤيد هذا: أن فقهاء المسلمين في مختلف الأعصار، وشتى الأقطار، لم يقولوا بوجوب الزكاة في هذه الأشياء، ولو قالوا به لنقل عنهم.
3- أنهم نصوا على ما يخالف ذلك فقالوا: لا زكاة في دور السكنى، ولا أدوات المحترفين، ولا دواب الركوب، ولا أثاث المنازل ونحوها ..وإذن يكون الحكم عندهم: أن لا زكاة في المصانع وإن عظم إنتاجها، ولا في تلك العمارات، وإن شهق بنيانها، ولا في تلك السيارات والطائرات والسفن التجارية وإن ضخم إيرادها.
فإذا قبض من إيرادها شئ، ويبقى حتى حال الحَوْل، ففيه زكاة النقود بشروطها المدوَّنة، وإن لم يبق إلى الحَوْل نصاب أو ما يكمل نصابًا فلا شئ عليه.
والتضييق في أموال الزكاة مذهب قديم، عرف به بعض السلف، وتبناه ودافع عنه الفقيه الظاهري ابن حزم، وأيده في الأعصر الأخيرة الشوكاني، وصديق حسن خان، حتى قالوا: لا زكاة في عروض التجارة، ولا في الفواكه والخضراوات ونحوها.
ومن أوضح العبارات في ذلك ما قاله صاحب "الروضة الندية" ردًّا على من قال "في المستغلات صدقة": أن إيجاب الزكاة فيما ليس من الأموال التي تجب فيها باتفاق -كالدور والعقار والدواب ونحوها- بمجرد تأجيرها بأجرة من دون تجارة في أعيانها، مما لم يسمع به في الصدر الأول الذين هم خير القرون، ثم الذين يلونهم، فضلاً عن أن يسمع فيه بدليل من كتاب أو سنه (الروضة الندية: 1/194).
وجهة الموسعين في إيجاب الزكاة
وأما المتوسعون في الأموال التي تجب فيها الزكاة فيقررون وجوبها في الأشياء المذكورة من مصانع وعمارات ونحوها، وهذا هو رأى بعض المالكية والحنابلة، وإن يكن غير مشهور - ورأى الهادوية من الزيدية كما هو رأى بعض العلماء المعاصرين، أمثال أساتذتنا الأجلاء: أبى زهرة وخلاف وعبد الرحمن حسن، كما سنبين ذلك في المبحث القادم.
وهذا التوسع هو الذي أرجحه استنادًا إلى الأمور الآتية :
1- أن الله أوجب لكل مال حقًا معلومًا، أو زكاة، أو صدقة، لقوله تعالى: (والذين في أموالهم حق معلوم)(المعارج: 24)، وقوله تعالى :(خذ من أموالهم صدقةً) (التوبة: 103) وقوله -صلى الله عليه وسلم-:"أدُّوا زكاة أموالكم" من غير فصل بين مال ومال.
وقد رد ابن العربى على الظاهرية الذين نفوا وجوب الزكاة فى عروض التجارة، لعدم ورود حديث صحيح فيها، فقال: قول الله عز وجل: (خُذ من أموالهم صدقة) عام في كل مال على اختلاف أصنافه، وتباين أسمائه، واختلاف أغراضه، فمن أراد أن يخصه في شيء فعليه الدليل (شرح الترمذي: 3/104).
2- أن علة وجوب الزكاة في المال معقولة، وهي النماء كما نص الفقهاء الذين يعللون الأحكام، ويعملون بالقياس، وهم كافة فقهاء الأمة ما عدا حفنة قليلة من الظاهرية والمعتزلة والشيعة.
من هنا لم تجب الزكاة في الدور السكنى، وثياب البذلة، وحلي الجواهر، وآلات الحرفة، وخير الجهاد بالإجماع، وكان القول الصحيح سقوط الزكاة عن العوامل من الإبل والبقر، وعن حلى النساء المستعملة المعتادة، عن كل مال لا ينمى بطبيعته أو بعمل الإنسان.
وإذا كان النماء هو العلة في وجوب الزكاة، فإن الحكم يدور معه وجودًا وعدمًا، فحيث تحقق النماء في مال وجبت فيه الزكاة، وإلا فلا.
3- أن حكمة تشريع الزكاة - وهى التزكية والتطهير لأرباب المال أنفسهم، والمواساة لذوى الحاجة، والإسهام في حماية دين الإسلام ودولته، ونشر دعوته - تجعل إيجاب الزكاة هو الأولى والأحوط لأرباب المال أنفسهم، حتى يتزكوا ويتطهروا، وللفقراء والمحتاجين، حتى يستغنوا ويتحرروا، وللإسلام دينًا ودولة، حتى تقوى شوكته، وتعلوا كلمته.
وقد قال الكاساني في دلالة العقل على فرضية العشر في ما خرج من الأرض: إن إخراج العشر إلى الفقير من باب شكر النعمة، وإقدار العاجز، وتقويته على القيام بالفرائض، ومن باب تطهير النفس من الشح ومن الذنوب، وتزكيتها بالبذل والإنفاق، وكل ذلك لازم عقلاً وشرعًا. ..ا.هـ.
فهل يكون شكر النعمة، ومساعدة العاجز، وتطهير النفس وتزكيتها بالبذل، لازمًا عقلاً وشرعًا لصاحب الزرع والثمر، غير لازم لصاحب المصنع والعمارة والسفينة والطائرة ونحوها، مما يدر من الدخل أكثر مما تدره أرض الذرة والشعير بأضعاف مضاعفة، وبجهد أقل من جهدها؟
الرد على أدلة المضيقين
أما قولهم: "لا زكاة إلا فيما أخذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم- الزكاة"، فنقول:
إن عدم نص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أخذ الزكاة من مال ما لا يدل على عدم وجوب الزكاة فيه، فإنما نص النبي -صلى الله عليه وسلم- على الأموال النامية التي كانت منتشرة في المجتمع العربى في عصره، كالإبل والبقر والغنم من الحيوانات، والقمح والشعير والتمر والزبيب من الزروع والثمار، والدراهم الفضية من النقود.
مع هذا أوجب المسلمون الزكاة في أموال أخرى لم يجيء بها نص، قياسًا على تلك الأموال، أو عملاً بعموم النصوص، تطبيقًا لما قرر من حكمة فرض الزكاة.
(أ ) من ذلك ما قاله الإمام الشافعي في "الرسالة" عند زكاة الذهب، قال: وفرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الورق (النقود الفضية) صدقة، وأخذ المسلمون في الذهب بعده صدقة: إما بخبر من النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يبلغنا وإما قياسًا على أن الذهب نقد الناس الذي اكتنزوه، وأجازوه أثمانًا على ما تبايعوا به في البلدان، قبل الإسلام وبعده. ..ا.هـ (الرسالة ص193، 194 بتحقيق الشيخ أحمد شاكر).
واحتمال وجود خبر نبوي لم يبلغ الشافعي في عصره -مع حاجة الناس إلى تناقل هذا الخبر- احتمال ضعيف، فالعمدة هو القياس، وبهذا جزم القاضي الفقيه أبو بكر بن العربي، فذكر في شرح الترمذي، في بيان الحكمة في ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- الفضة، ونصابها، ومقدار الواجب فيها، وترك ذكر الذهب، قال: " إن تجارتهم إنما كانت في الفضة، خاصة معظمها، فوقع التنصيص على المعظم ليدل على الباقي، لأن كلهم أفهم خلق الله وأعلمهم، وكانوا أفهم أمة وأعلمها، فلما جاء الحمير الذين يطلبون النص في كل صغير وكبير، طمس الله عليهم باب الهدى، وخرجوا عن زمرة من استن بالسلف واهتدى"(شرح الترمذي: 3/104).
وهو يعني بكلمته الأخيرة العنيفة الظاهريين الذين ينفون القياس، ولا يلتفتون إلى العلل.
(ب) ومن ذلك أنه لم يرد نص صحيح صريح بوجوب الزكاة في العروض التجارية، ومع هذا نقل ابن المنذر الإجماع على وجوبها، ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية الذين تعلقوا بشبهات واهية فندناها في موضعها.
(ج) ومن ذلك أن عمر أمر بأخذ الزكاة من الخيل، لما تبين له أن فيها ما تبلغ قيمته مبلغًا عظيمًا من المال، وتابعه في ذلك أبو حنيفة؛ مادامت سائمة، واتُّخذت للنماء والاستيلاد.
(د) أن أحمد أوجب الزكاة في العسل، لما ورد فيه من الأثر، وقياسًا على الزرع والثمر، أوجب الزكاة في كل معدن، قياسًا على الذهب والفضة، ولعموم آية: (ومما أخرجنا لكم من الأرض) (البقرة: 267).
(هـ) أن الظهري والحسن وأبا يوسف أوجبوا فيما يستخرج من البحر من لؤلؤ وعنبر ونحوهما: الخمس، قياسًا على الركاز والمعدن.
(و) أن كل مذهب من المذاهب المتبوعة أدخل القياس في الزكاة في أحكام عدة، كقياس الشافعية غالب قوت البلد، أو غالب قوت الشخص على ما جاء به الحديث في زكاة الفطر، من التمر أو الزبيب أو الحنطة أو الشعير، وكقياسهم كل ما يقتات على الأقواس الأربعة المذكورة، التي جاء به النص في عُشر الزرع والثمر.
2- وأما قولهم: أن فقهاء الإسلام في جميع أعصاره وأمصاره لم ينقل عنهم القول بذلك - فلأن بعض هذه الأموال النامية لم ينتشر في عصرهم انتشارًا تعم به البلوى، ويدفع الفقيه إلى الاجتهاد والاستنباط، وبعضها لم يكن موجودًا قط، بل هو من مستحدثات الأزمنة الأخيرة.
ومع هذا وجد من أقوال الفقهاء ما يدل على وجوب الزكاة في هذه الأشياء أو في غلتها وفوائدها، كما سنذكر بعد.
3- وأما نص الفقهاء على إعفاء الدور والآلات ونحوها من الزكاة؛ فهو عين الصواب - ولكن هذه الأشياء التي أخرجها علماؤنا من وعاء الزكاة غير ما نحن فيه، فدور السكنى غير العمارات الاستغلالية، وآلات المحترف كالقدوم والمنشار ونحوهما؛ غير الماكينات والأجهزة التي تنتج وتعمل وتدر ربحًا ودخلاً والتي غَيَّرَ ظهورها وجه الحياة في العالم كله، ولهذا أطلق عليه المؤرخون اسم "الانقلاب الصناعي"، ودواب الركوب غير هذه السيارات والطائرات والجواري المنشآت في البحر كالأعلام وأثاث المنازل غير محلات الفراشة التي تؤجر أثاثها ومقاعدها ومعداتها للناس، فما أخطأ علماؤنا حين قرروا أن لا زكاة في ما ذكروا من الأشياء بل طبقوا بدقة وبصر ما اشترطوه لوجوب الزكاة؛ أن يكون المال ناميًا، فاضلاً عن الحاجة الأصلية لصاحبه، ولهذا علل صاحب "الهداية" الحكم بعدم الزكاة في الأشياء المذكورة بقوله: لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية وليست بنامية أيضًا (الهداية مع فتح القدير: 1/ 487).
ووضح ذلك صاحب العناية فقال يعنى أن الشغل الحاجة الأصلية وعدم النماء؛ كل منهما مانع من وجوبها، وقد اجتمعنا ههنا: أما كونها مشغولة بها فلأنه لابد له من دار يسكنها، وثياب يلبسها ….الخ.
أما عدم النماء فلأنه إما خِلقِي كما في الذهب والفضة، وإما بإعداد للتجارة وليسا موجودين ههنا(العناية شرح الهداية مع فتح القدير - نفس الصفحة السابقة).
على هذا اتفق الفقهاء: أن لا زكاة في دار اتخذها صاحبها للسكنى، وهذا من العدل والتيسير الذي جاء به الإسلام، وإن كنا نرى كثيرًا من قوانين الضرائب في الدول المعاصرة تعمد إلى أخذ ضريبة على العقار، ولو كان سكنًا لصاحبه وقليل منها -مثل التشريع الأمريكي- هو الذي نص على إعفاء مالك المبنى من الضريبة إذا كان يتخذه لسكنه.
هذا إلى أن تعليل فقهائنا لعدم وجوب الزكاة في الدور والثياب وآلات الحرفة ونحوها بأنها مشغولة بالحاجة الأصلية وبأنها غير نامية يدل - بمفهوم المخالفة - أن ما اتُّخذ منها للنماء ولغير الاستعمال في الحاجة الأصلية يصبح صالحًا لوجوب الزكاة.

المصدر : موقع الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله .