آخر المواضيع

السبت، 21 فبراير 2015

تخصيص العام بالعرف والعادة


تخصيص العام بالعرف والعادة
([1])
:
 عبد الجليل مبرور

اتفق الأصوليون على أن العرف القولي مخصص للفظ العام([2])، وأما العادة الفعلية ففيها مذهبان، وذلك كما إذا كان من عادتهم أن يأكلوا طعاما مخصوصا وهو البر مثلا, فورد النهي المذكور وهو بيع الطعام بجنسه.
 المذهب الأول : وهو مذهب الأحناف و جمهور المالكية : الذين قالوا بتخصيص العام بالعرف العملي.

واستدلوا بأدلة منها :
·   فقاسوا العرف العملي على العرف القولي، لكون التفريق بينهما هو تحكم بلا دليل، فما ينقض اعتبار العرف العملي يصلح ناقضا للقولي أيضا.
·   وأجيب عنه بكون العرف القولي صار حقيقة عرفية غلبت على الاسم عند الإطلاق، أما العملي يحتاج إلى قرينة الفعل و معاودته، فصار قياس مع الفارق.
·       قالوا يتخصص به كتخصص الدابة بالعرف والنقد بالغالب.
·       وأجيب بأنه إن غلب الاسم عليه كالدابة اختص بخلاف غلبة تناوله.
·       قاسوا العام على المطلق لكون العرف العملي يقيد المطلق بالاتفاق.
·       وأجيب بأن ذلك قرينة قيدت المطلق، أما العموم فإخراج بعضه يحتاج إلى دليل.
 أما المذهب الثاني : فمذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة وبعض المالكية، الذين قالوا بإجراء العموم على عمومه. هكذا نقله الآمدي وابن الحاجب وغيرهما، وقال في المحصول: اختلفوا في التخصيص بالعادات, والحق أنها إن كانت موجودة في عصره -عليه الصلاة والسلام- وعلم بها وأقرها، كما إذا اعتادوا مع الموز بالموز متفاضلا بعد ورود النهي وأقره, فإنها تكون مخصصة، ولكن المخصص في الحقيقة هو التقرير، وإن لم تكن بهذه الشروط فإنها لا تخصص؛ لأن أفعال الناس لا تكون حجة على الشرع، نعم إن أجمعوا على التخصيص لدليل آخر فلا كلام.
واستدلوا بأدلة منها:
·   الاعتبار بعموم اللسان ، ولا اعتبار بعموم ذلك الاسم على ما اعتادوه ، لأن الخطاب إنما يقع بلسان العرب على حقيقة لغتها ، فلو خصصناه بالعادة للزم تناوله بعض ما وضع له ؟ وحق الكلام العموم ، ولسنا ندري : هل أراد الله ذلك أم لا ؟ فالحكم للاسم ، حتى يأتي دليل يدل على التخصيص . وهذا كله بالنسبة إلى خطاب الله وخطاب رسوله ، فأما خطاب الناس فيما بينهم في المعاملات وغيرها ، فينزل على موضوعاتهم كنقد البلد في الشراء والبيع ، وغيره ، إذا أرادوه ، وإلا عمل بالعام .
·   لا يجوز التخصيص بالعادة ، مثل أن يرد خبر عن النبي عليه السلام في بيع أو غيره ، وعادة الناس تخالفه ، فيجب الأخذ بالخبر ، واطراح تلك العادة ، لأن الخبر إنما يرد لنقل الناس عن عادتهم ، فلا يترك بها ([3]).
·   لأن الحجة إنما هي في اللفظ الوارد، وهو مستغرق لمعناه بلفظه، ولا ارتباط له بالعوائد، وهو حاكم على العوائد، فلا تكون العوائد حاكمة عليه.
·   فإن قيل: إذا منعتم من تجويز تخصيص العموم بالعادة وتنزيل لفظ الطعام على ما هو المعتاد المتعارف عند المخاطبين، فما الفرق بينه وبين تخصيص اللفظ ببعض مسمياته في اللغة، بالعادة، وذلك كتخصيص اسم الدابة بذوات الأربع، وإن كان لفظ الدابة عاما في كل ما يدب، وكتخصيص اسم الثمن في البيع بالنقد الغالب في البلد، حتى إنه لا يفهم من إطلاق لفظ الدابة والثمن غير ذوات الأربع والنقد الغالب في البلد.
·   قلنا: الفرق بين الأمرين أن العادة في محل النزاع إنما هي مطردة في اعتياد أكل ذلك الطعام المخصوص، لا في تخصيص اسم الطعام بذلك الطعام الخاص، فلا يكون ذلك قاضيا على ما اقتضاه عموم لفظ الطعام مع بقائه على الوضع الأصلي، وهذا بخلاف لفظ الدابة، فإنه صار بعرف الاستعمال ظاهرا في ذوات الأربع وضعا، حتى إنه لا يفهم من إطلاق لفظ الدابة غير ذوات الأربع، فكان قاضيا على الاستعمال الأصلي، حتى إنه لو كانت العادة في الطعام المعتاد أكله قد خصصت بعرف الاستعمال اسم الطعام بذلك الطعام، لكان لفظ الطعام منزلا عليه دون غيره ضرورة تنزيل مخاطبة الشارع للعرب، على ما هو المفهوم لهم من لغتهم، وفيه دقة مع وضوحه.([4])
والذي يظهر والله أعلم أن الراجح هو قول الجمهور لأن عموم اللفظ مستغرق، وحصر هذا الاستغراق يحتاج إلى دليل قوي أما العرف فمتغير وغير ثابت، والشرع جاء لتغيير العوائد وتهذيبها، أي هو حاكم عليها وليس محكوما، فإذا تعذر فهم الحقائق وجب المصير إليه في ما لم يقدره النص، أما فتح هذا الباب فهو طريق لإهمال النصوص والتحكم في دلالاتها بلا موجب، يفتح باب شر على الأمة.




([1]) شرح الكوكب المنير (3/387) المسودة(1/123)التقرير والتحبير ( 1/ /340) المستصفى (3/329)المحصول(3/131)الإحكام للآمدي(2/407)شرح تنقيح الفصول(165) البحر المحيط (3/391) إيضاح المحصول من برهان الأصول (331)نهاية السول(217) قواطع الأدلة(1/392) الردود والنقود(2/271فما بعدها)الإبهاج شرح المنهاج(2/181)العدة(2/593( شرح العضد على مختصر المنتهى(3/75)إرشاد الفحول(2/697)
([2]) ينظر : التقرير والتحبير(1/340)نهاية السول(219)
([3]) البحر المحيط، بتصرف(3/393 فما بعدها)
([4]) الإحكام للآمدي(2/407 فما بعدها)