آخر المواضيع

الخميس، 29 مارس 2012

وجوبها على أهل المصر والقرى.




فقيل: هي واجبة على أهل المصر فقط، ولا تَلزم الجمعةُ من كان خارج المصر أو القرية مع أهله بحال، إذا كان بينهم وبين المصر فُرْجة، ولو كانوا من ربض المصر، وهو مذهب الأحناف[49].

وقيل: واجبةٌ على أهل المصر والقرية، وهو مذهب جمهور العلماء من المالكية[50] والشافعية[51] والحنابلة[52]، وهو اختيار ابن تيميَّة[53].

أدلة القائلين بوُجوبها على أهل المصر دون خارجه:
الدليل الأول:
 عن علي - رضي الله عنه -: ((لا جمُعة، ولا تشريق، ولا صلاة فِطْر ولا أضحى، إلاَّ في مصر جامع، أو مدينة عظيمة))؛ صحيح موقوف على علي - رضي الله عنه[54].

 قالوا: وإن كان الصحيح وقْفَه فمِثله في حُكم المرفوع؛ لأنَّه من شروط العبادة، ولا مَدْخل للرأي فيها.

 قالوا: لأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يُقيم الجمعة بالمدينة فلا يدعو أهل العوالي والسَّواد، ولو وجَبَت عليهم لوجب عليه أن يأمرهم بها، قال: ولأنَّ كُلَّ موضع لا تجب فيه صلاة الجمعة لا تجب على أهله الجمعة، قياسًا على من لم يسمع النِّداء.

 ولأنه لَمَّا لَم يكن سماع النِّداء في البلد شرطًا في وجوب الجمعة؛ لأنَّها تجب عليهم وإن لم يسمعوه، وجب أن يَبطل الاعتبار به فيمن خارج البلد، فلا تجب عليهم الجمعة وإن سمعوه، قال: ولأنَّ ما قَرُب من البلد في حكم ما بعد عنه، ألاَ ترى أنَّه لو نوى السَّفر، وفارق بنيان البلد، جاز له القَصْر والمسح ثلاثًا كما لو بعد عنه، فلَمَّا لم تجب الجمعة على مَن بعد لم تجب على من قرب[55].

أدلة وجوبها على أهل المصر والقرية:
الدليل الأول:
 عموم قوله - جلَّ وعلا -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة: 9].

الدليل الثاني:
 عن عبدالله بن عمرٍو أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الجمعة على من سمع النداء))؛ حديث حسَن[56].

 وفيه أنَّ النِّداء قد يُسمع على مسافة فرسخ، فيلزم مَن كان خارج البلد بهذه المسافة.

الدليل الثالث:
 حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - "أنهم كتبوا إلى عُمَر بن الخطاب يسألونه عن الجمعة وهم بالبحرين؟ فكتب إليهم: أن جمِّعوا حيثما كنتم"[57].

الدليل الرابع:
 عن ابن عبَّاس: أنه قال: "إن أول جمُعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مسجد عبدالقيس بِجُواثَى من البحرين"[58]، وهي قرية من قرى البحرين.

الدليل الخامس:
 عن ابن عمر: "أنه كان يرى أهل المياه بين مكَّة والمدينة يجمعون، فلا يعيب عليهم"[59].

الدليل السادس:
 حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدَّثَنا عبدالله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث عن عبيدالله بن أبي جعفر أنَّ محمد بن جعفر بن الزبير حدَّثه عن عروة بن الزُّبير عن عائشة زوجِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالتْ: كان الناس يَنْتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في الغبار يُصيبهم الغبار، والعرق فيخرج منهم العرق، فأتى رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو أنَّكم تطَهَّرتم ليومكم هذا))[60].

الدليل السابع:
 عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك - وكان قائدَ أبيه بعدما ذهب بصَرُه عن أبيه كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النِّداء يوم الجمعة ترَحَّم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النِّداء ترحَّمت لأسعد بن زرارة! قال: لأنَّه أوَّل مَن جمع بنا في هزم النَّبيت من حَرَّة بني بياضة في نَقِيع يقال له: نَقيع الخَضَمات، قلتُ: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون[61].

قال الخطابي: حَرَّة بني بياضة قرية على ميل من المدينة[62].

الدليل الثامن:
 عن اللَّيث بن سعد قال: "كلُّ مدينة أو قرية فيها جماعة وعليهم أمير، أُمِروا بالجمعة، فلْيُجمع بهم؛ فإنَّ أهل الإسكندرية ومدائن مصر ومدائن سواحلها كانوا يُجمعون الجمعة على عهد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان - رضي الله عنهما - بأمرهما، وفيها رجال من الصَّحابة"[63].

الدليل التاسع:
 عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((كلُّكم راعٍ)) وزاد الليث: قال يونس: كَتَب رُزَيق بن حكيم إلى ابن شهاب، وأنا معه يومئذ بوادي القرى: هل تَرى أن أجمع، ورزيق عامل على أرض يعملها وفيها جماعة من السُّودان وغيرهم، ورزيق يومئذ على أَيلَة، فكتب ابنُ شهاب - وأنا أَسمع - يأمره أن يجمع؛ يُخبِره أن سالِمًا حدَّثه أن عبدالله بن عمر يقول: سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((كلُّكم راع وكلُّكم مسؤول عن رعيته؛ الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيِّده ومسؤول عن رعيته))، قال: وحسبت أن قد قال: ((والرَّجل راعٍ في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، وكلُّكم راع ومسؤول عن رعيته))[64].

 ووجْه ما احْتجَّ به على التَّجميع من قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلُّكم راع)) أنَّ على من كان أميرًا إقامة الأحكام الشرعية - والجمعة منها - وكان رُزَيق عاملاً على الطائفة التي ذَكَرها، وكان عليه أن يراعي حقوقَهم، ومن جملتها إقامة الجمعة.

قال الزَّين بن المُنير: في هذه القصَّة إيماء إلى أنَّ الجمعة تنعقد بغير إذْنٍ من السُّلطان إذا كان في القوم من يقوم بمصالحهم، وفيه إقامة الجمعة في القرى، خلافًا لمن شرط لها المُدُن.

فإن قيل: قوله: ((كلُّكم راعٍ)) يعمُّ جميع الناس، فيدخل فيه المرْعيُّ أيضًا، فالجواب أنه مرعي باعتبار، راعٍ باعتبار، حتى ولو لم يكن له أحَدٌ كان راعيًا لجوارحه وحواسِّه؛ لأنَّه يجب عليه أن يقوم بحقِّ الله وحق عباده[65].

الدليل العاشر:
 عن أبي هريرة، قال: أتى النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلٌ أعمى، فقال: يا رسول الله، إنَّه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يرخص له، فيصلِّي في بيته، فرخَّص له، فلما ولَّى، دعاه، فقال: ((هل تسمع النِّداء بالصلاة؟)) قال: نعم، قال: ((فأجب)).

 وهذا الحديث عامٌّ فيمَن كان من أهل القرية نفْسِها ومن كان قريبًا منها وهو يسمع النِّداء، فإذا تأكَّد إجابة النِّداء لصلاة الجماعة فالجمعة من باب أولى.

الترجيح:
والذي يَظهر أن الرَّاجح هو قول الجمهور؛ لما سَبَق من الأدلة، وقد أجابوا عن أدلة الأحناف بأجوبة:
فأما الجواب عن قوله: "لا جمعة إلاَّ على أهل مصر جامع"، فهو مروي عن علي - رضي الله عنه - وموقوف عليه، ولو صحَّ مُسنَدًا لَحُمل على من لم يسمع النِّداء، وخصَّ بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - "الجمعة على كلِّ من سمع النداء"؛ لأنه عام، وهذا خاصٌّ منه.

وأما قولهم أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يأمر أهل العوالي والسواد بها، فبُهْت مع نصِّ كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأنَّ الله تعالى قد أمرهم بها بقوله تعالى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9].

ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد ندبهم إليها في قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تجب الجمعة على كلِّ مسلم)).

وأما قياسهم فالمعنى في أصله: أنه لم يَبْلغهم شعار الجمعة.

وأما قولهم: لما بطَل اعتبار النِّداء في وجوب الجمعة في البلد بطَل اعتباره خارج البلد، وهو نداء الجامع، فلا يُعتبر في أهل البلد، ولا في الخارجين عنه، والنِّداء الذي اعتبرناه خارج البلد اعتبرناه في البلد، وهو النِّداء في كلِّ موضع منه، فاستَوَيا.

وأمَّا قولهم ما قَرُب من البلد في حُكم ما بعد عنه، فغير صحيح؛ لأنه لو نَوى سفَر ما قَرُب لم يَقْصر، ولو نوى سفر ما بَعُد جاز أن يقصر، فعُلِم أن حكم ما قرب قد يخالف حكم ما بعد.

فإذا صحَّ ما ذكرناه، فهو حُجَّة على جميع مَن خالفنا[66].

جمع : أ . عبد الجليل مبرور

================


[49] "الاختيار لتعليل المختار" (1 / 82)، "بدائع الصنائع" (1 / 261)، "حاشية ابن عابدين" (3 / 30).
[50] "المدوَّنة" (1 / 233)، "أقرب المسالك" (25)، "التلقين" (131)، "الكافي" في فقه أهل المدينة (69)، "حاشية الصَّاوي" (1 / 325)، "مواهب الجليل" (2 / 527)، "الإكليل" (72).
[51] "الأم" (2 / 381) "المجموع" (4 / 354) "مُغْني المحتاج" (1 / 415) "الحاوي الكبير" (2 / 404).
[52] "المُحرَّر في الفقه" (142) "المقْنِع، مع الشَّرح الكبير، مع الإنصاف" (5 / 161) "المُغْني" (3 / 208) "كشَّاف القِناع" (1 / 503).
[53] "مجموع الفتاوى" (24 / 92).
[54] أخرجه عبدالرزَّاق في "مصنَّفه" (53 / 167 - 168 (والبيهقي في "السُّنَن الكبرى" (3 / 179) والطَّحاوي (2 / 54) من طريق زبيد عن سعد بن عبيدة عن أبي عبدالرحمن عن علي، فذَكَره، وإسناده صحيح.
وأخرجه عبدالرزاق في "مصنَّفه" وابن أبي شيبة (2 / 101)، من طريق أبي إسحاق عن الحارث عن علي فذكره، وفيه الحارث الأعور.
قال الحافظ: في حديثه ضعْفٌ، كذبه الشَّعبي في رأيه، ورُمِي بالرَّفض.
[55] "الحاوي الكبير" (2 / 405).
[56] أخرجه أبو داود (1056) وأبو بكر المَروزي في كتاب الجمعة (69) والدَّارقطني (1590) والبيهقي (3 / 246) وابن الجوزي (1 / 157) من طريق قبيصة، حدثنا سفيان، عن محمد بن سعيد، يعني الطائفي، عن أبي سلمة بن نبيه، عن عبدالله بن هارون، فذكره.
قال أبو داود: رَوى هذا الحديث جماعة، عن سفيان، مقصورًا على عبدالله بن عمرو، لم يرفعوه، وإنما أسنده قبيصة.
قال الدارقطني: "قال ابن أبي داود: محمد بن سعيد هو الطائفي ثقة وهذه سنة تفرد بها أهل الطائف".
غير أنَّ للحديث علَّتَيْن:
الأولى: الاختلاف في رفعه ووقفه.
الثانية: جهالة كلٍّ من أبي سلمة بن نبيه، وعبدالله بن هارون، كما قال الحافظ في "التَّقريب".
قال البيهقي: وقبيصة بن عقبة من الثقات، ومحمد بن سعيد هذا هو الطائفي ثقة، وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدِّه.
وهذا الشاهد أخرجه الدارقطني (1589) والبيهقي (5583) من طريق الوليد عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
قال الحافظ في "الفتح" (2 / 385) : "ويؤيِّده قوله - صلَّى الله عليه وسلم - لابن أمِّ مكتوم: ((أتَسْمَع النِّداء؟)) قال: نعم، قال: ((فأجب)).
[57] رواه ابن أبي شيبة (5108) وابن حزم في "المُحلَّى" (5 / 50) بسند صحيح.
[58] أخرجه البخاري (812).
[59] "مصنف عبدالرزَّاق" (5199) بسند صحيح.
[60] البخاري 902.
[61] أخرجه أبو داود (1069) وابن ماجه (1082) وابن خزيمة (3 / 112-113) والدارقطني (2 / 5-6) والحاكم (1 / 281) بسند حسن.
[62] "مَعالم السُّنن" (245).
[63] البيهقي في "الكبرى" (5612).
[64] البخاري (893).
[65] "فتح الباري" (2 / 381).
[66] "الحاوي الكبير" (2 / 406).