آخر المواضيع

السبت، 28 ديسمبر 2013

الـخــلاف و أنـواعــه .


كتبه : عبد الجليل مبرور

معنى الخلاف .

أولا : لغة
الخلاف لغة :
مصدر خالف فنقول خَالَفْتُه مُخَالَفة وخِلافا وتَخَالَف القوم واختلفوا إذا ذهب كل واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر وهو ضد الاتفاق.
"والاِخْتِلافُ وَالمُخَالَفَةُ: أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو قوله، والخلاف أعم من الضد؛ لأن كل ضدين مختلفان، وليس كل مختلفين ضدين" المفردات في غريب القرآن للأصبهاني (156)

ثانيا : اصطلاحا.
جاء في فتح القدير والدر المختار وحاشية ابن عابدين ، ونقله التهانوي عن بعض أصحاب الحواشي ، التفريق بين ( الاختلاف ) ( والخلاف ) بأن الأول يستعمل في قول بني على دليل ، والثاني فيما لا دليل عليه . وأيده التهانوي بأن القول المرجوح في مقابلة الراجح يقال له خلاف ، لا اختلاف . قال : والحاصل منه ثبوت الضعف في جانب المخالف في ( الخلاف ) ، كمخالفة الإجماع، وعدم ضعف جانبه في ( الاختلاف ) .
وقد وقع في كلام بعض الأصوليين والفقهاء عدم اعتبار هذا الفرق ، بل يستعملون أحيانا اللفظين بمعنى واحد ، فكل أمرين خالف أحدهما الآخر خلافا ، فقد اختلفا اختلافا . وقد يقال : إن الخلاف أعم مطلقا من الاختلاف . وينفرد الخلاف في مخالفة الإجماع ونحوه . هذا ويستعمل الفقهاء ( التنازع ) أحيانا بمعنى الاختلاف .اهــالموسوعة الفقهية الكويتية ( 2/291)
وبناء على ما سبق يتضح أن الخلاف ينقسم إلى قسمين :
اختلاف : وهو كل خلاف سائغ قوي دليله.
وخلاف : وهو كل خلاف مذموم ضعف دليله ، وسيأتي تفصيل كل قسم على حدة.

أولا : الخلاف السائغ .


وهو كل خلاف معتبر له أصل شرعي من الكتاب أو السنة لكن دلالته على الحكم ظنية وليست محل إجماع ، سواء كان ذلك في المسائل العلمية أو العملية.
ولا شك أن هذا النوع من الخلاف لطالما كان رحمة لهذه الأمة ومسرحا لاجتهاد علمائها ، ومخرجا لها من الإشكالات والنوازل التي وقعت ولا تزال تقع فيها على مر العصور ، بل هو مما جعل الشريعة صالحة لكل زمان ومكان ، فصارت مرنة بحسب الأحوال والأزمنة والأمكنة ، مع إعمال مقاصد الشريعة التي راعت ضرورات الأمة و حاجاتها في شمولها وعمومها ، في غير مصادمة نص أو إجماع ، وإنما مصادمة فهم أو استنباط لأحد الأئمة قد يكون راجحا أو مرجوحا ، وهذا لا شيء فيه مادام مجال الاحتمال مفتوحا.

ومن العلماء الذين أصلوا لهذا النوع من الخلاف الشافعي رحمه الله حيث قال : " فإني أجد أهل العلم قديما وحديثا مختلفين في بعض أمورهم فهل يسعهم ذلك ؟
قال : فقلت له : الاختلاف من وجهين : أحدهما : محرم ولا أقول ذلك في الآخر
قال : فما الاختلاف المحرم ؟
قلت : كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصا بينا : لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه
وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياسا فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس وإن خالفه فيه غيره : لم أقل أنه يضيق عليه ضيق الخلاق في المنصوص "اهــ(الرسالة (560) )

قال العز بن عبد السلام رحمه الله :
" والضابط في هذا أن مأخذ المخالف إن كان في غاية الضعف والبعد من الصواب فلا نظر إليه ولا التفات عليه إذا كان ما اعتمد عليه لا يصح نصه دليلا شرعا ، ولا سيما إذا كان مأخذه مما ينقض الحكم بمثله .
وإن تقاربت الأدلة في سائر الخلاف بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد فهذا مما يستحب الخروج من الخلاف فيه حذرا من كون الصواب مع الخصم والشرع يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات ، كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات"( قواعد الأحكام (1/216))اهـ

يقول ابن تيمية رحمه الله : " إنما يكون اجتهاد الرأي فيما لم تمض به سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يعمد إلى شيء مضت به سنة فيرد بالرأي والقياس" اهـ( القواعد النورانية الفقهية(ص71))

ويقول أيضا :" وهكذا مسائل النزاع التي تنازع فيها الأمة في الأصول والفروع إذا لم ترد إلى الله والرسول لم يتبين فيها الحق بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم فإن رحمهم الله أقر بعضهم بعضا ولم يبغ بعضهم على بعض كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد فيقر بعضهم بعضا ولا يعتدي عليه وإن لم يرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم فبغى بعضهم على بعض إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله . وهذه حال أهل البدع والظلم كالخوارج وأمثالهم يظلمون الأمة ويعتدون عليهم إذا نازعوهم في بعض مسائل الدين "( مجموع الفتاوى(17/311)) اهـ

وقال أيضا : " وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال في الأصول والفروع ، ولم يفرق أحد من السلف والأئمة بين أصول وفروع ، بل جعل الدين قسمين : أصول وفروع ، لم يكن معروفا في الصحابة والتابعين ، ولم يقل أحد من السلف من الصحابة والتابعين ، أن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق ، يأثم لا في الأصول ولا في الفروع ، ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة ، وأدخله في أصول الفقه من نقل ذلك عنهم "(مجموع الفتاوى (13/ 125) )

ويقول أيضا : "إن المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية، وإن سميت تلك ((مسائل أصول)) وهذه ((مسائل فروع))؛ فإن هذه تسمية محدثة، قسمها طائفة من الفقهاء والمتكلمين، وهو على المتكلمين والأصوليين أغلب، لا سيما إذا تكلموا في مسائل التصويب والتخطئة.
وأما جمهور الفقهاء المحققين والصوفية؛ فعندهم أن الأعمال أهم وآكد من مسائل الأقوال المتنازع فيها؛ فإن الفقهاء كلامهم إنما هو فيها وكثيرا ما يكرهون الكلام في كل مسألة ليس فيها عمل، كما يقوله مالك وغيره من أهل المدينة، بل الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين ((مسائل أصول)) والدقيق ((مسائل فروع)).
فالعلم بوجوب الواجبات كمباني الإسلام الخمس، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة كالعلم بأن الله على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، وأنه سميع بصير، وأن القرآن كلام الله، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة، ولهذا من جحد تلك الأحكام العملية المجمع عليها كفر، كما أن من جحد هذه كفر.)(مجموع الفتاوى (6 / 56 - 57). ).

وقال أيضا: (والذين فرقوا بين الأصول والفروع لم يذكروا ضابطا يميز بين النوعين، بل تارة يقولون: هذا قطعي وهذا ظني، وكثير من مسائل الأحكام قطعي، وكثير من مسائل الأصول ظني عند بعض الناس، فإن كون الشيء قطعيا وظنيا أمر إضافي، وتارة يقولون: الأصول هي العلميات الخبريات والفروع العمليات، وكثير من العمليات من جحدها كفر؛ كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتارة يقولون: هذه عقليات وهذه سمعيات، وإذا كانت عقليات لم يلزم تكفير المخطئ؛ فإن الكفر حكم شرعي يتعلق بالشرع، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع)(مجموع الفتاوى (13 / 126). )

ويقول ابن القيم رحمه الله : " والصواب ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به الاجتهاد لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها "( إعلام الموقعين (3/288))اهـ

ويقول الشاطبي رحمه الله:
" إن الخلاف من زمان الصحابة إلى الآن واقع في المسائل الاجتهادية ، وأول ما وقع الخلاف في زمان الخلفاء الراشدين المهديين ، ثم في سائر الصحابة ، ثم التابعين ولم يعب أحد ذلك منهم ، وبالصحابة اقتدى من بعدهم في توسيع الخلاف . فكيف أن يكون الافتراق في المذاهب مما يقتضيه الحديث ؟ "( الاعتصام (3/161))

ويقول أيضا :" محال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين وضح فى كل واحد منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر؛ فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات"اهـ( الموافقات(5/114))

ويقول أيضا:" وإنما يعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة، كانت مما يقوي أو يضعف، وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا، فلذلك قيل: إنه لا يصح أن يعتد بها في الخلاف، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل، والمتعة، ومحاشي النساء، وأشباهها من المسائل التى خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها.
فإن قيل: فماذا يعرف من الأقوال ما هو كذلك مما ليس كذلك؟
فالجواب: إنه من وظائف المجتهدين، فهم العارفون بما وافق أو خالف، وأما غيرهم، فلا تمييز لهم في هذا المقام، ويعضد هذا أن المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب، فمن الأقوال ما يكون خلافا لدليل قطعي من نص متواتر أو إجماع قطعي في حكم كلي ومنها ما يكون خلافا لدليل ظني والأدلة الظنية متفاوتة، كأخبار الآحاد والقياس الجزئية، فأما المخالف للقطعي؛ فلا إشكال في اطراحه"اهـ(الموافقات (5/139) )

وقال في موضع آخر : " أن مسائل الاجتهاد قد جعل الله فيها سعة بتوسعة مجال الاجتهاد لا غير ذلك، قال القاضي إسماعيل: "إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي، فأما أن يكون توسعة أن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا، فاختلفوا".
قال ابن عبد البر: "كلام إسماعيل هذا حسن جدا"."( الموافقات(5/75)) اهـ

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " أنه لقي رجلا فقال : ما صنعت ؟ فقال : قضى علي وزيد بكذا ، قال : لو كنت أنا لقضيت بكذا ، قال : فما يمنعك والأمر إليك ؟ فقال : لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه رضي الله عنه لفعلت ولكني أردك إلى رأيي ، والرأي مشترك قال أبو عمر : ولم ينقض ما قال علي وزيد "(جامع بيان العلم وفضله (ص 854) )
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: " ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا ؛ لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق وإنهم أئمة يُقْتَدَى بهم ولو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة "، وقال أبو عمر رحمه الله : " هذا فيما كان طريقه الاجتهاد ""اهـ(جامع بيان العلم وفضله(ص 902) )

ويقول ابن تيمية رحمه الله : " والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر عظيم من خفاء الحكم ؛ ولهذا صنف رجل كتابا سماه " كتاب الاختلاف " فقال أحمد : سمه " كتاب السعة " وإن الحق في نفس الأمر واحد وقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه لما في ظهوره من الشدة عليه ويكون من باب قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) [المائدة:101]. وهكذا ما يوجد في الأسواق من الطعام والثياب قد يكون في نفس الأمر مغصوبا فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله له حلالا لا إثم عليه فيه بحال ؛ بخلاف ما إذا علم فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة كما أن رفع الشك قد يكون رحمة وقد يكون عقوبة ."اهـ ( مجموع الفتاوى(14/159))

عن حميد قال : " قلت لعمر بن عبد العزيز لو جمعت الناس على شيء فقال ما يسرني أنهم لم يختلفوا قال ثم كتب إلى الآفاق أو إلى الأمصار ليقضي كل قوم بما اجتمع عليه فقهاؤهم "اهـ( سنن الدارمي(1/489)).

من خلال ما سبق يتضح جليا أن مسائل الاجتهاد يسوغ الخلاف فيها ، بل هو ظاهرة صحية في الأمة ، لتعدد مدارك أفرادها واختلاف مشاربهم وأفهامهم ، وفي سد باب الاجتهاد تحجير للواسع.

ثانيا : الخلاف المذموم :



وهو كل خلاف صادم نصا صحيحا صريحا ، أو خرق إجماعا أو خالف قياسا جليا ، فصار ساقط الاعتبار ، لا يلتفت إليه ولا كرامة ، بل الرد عليه واجب.
وعليه فإذا كان الخلاف مذموما صار واجب الإنكار عليه متعينا ، لأن حفظ الدين لا يتأتى إلا بتمييز الحق من الباطل والخبيث من الطيب ، وإلا انفتح باب شر عظيم على الأمة ، تندرس به معالم الدين فيختلط الحق بالباطل ، ولا يتأتى بيان هذا الحق إلا من خلال الواجب الكفائي الذي جند الله له علماء أخيار ينفون عنه تأويل الغالين وتحريف المبطلين .
يقول ابن تيمية رحمه الله : " من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافا لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع "( مجموع الفتاوى(24/172)) اهـ
ويقول ابن القيم رحمه الله : " وقولهم إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعا شائعا وجب إنكاره اتفاقا إن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار وكيف يقول فقيه لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقص حكم الحاكم إذا خالف كتابا أو سنة وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهدا أو مقلدا .
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم .
والصواب ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به الاجتهاد لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها "( إعلام الموقعين(3/288))اهـ
ويقول الشاطبي رحمه الله : " لا يصح اعتمادها خلافا في المسائل الشرعية؛ لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاده، ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإن حصل من صاحبها اجتهاد، فهو لم يصادف فيها محلا، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد، وإنما يعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة، كانت مما يقوي أو يضعف، وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا، فلذلك قيل: إنه لا يصح أن يعتد بها في الخلاف، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل، والمتعة، ومحاشي النساء ، وأشباهها من المسائل التى خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها."( الموافقات(5/139) )اهـ