آخر المواضيع

الجمعة، 29 مايو 2015

من كلام شيخ الإسلام اين تيمية : معنى "الغوث" و"القطب"


جاء في جامع المسائل (1/77):


" ولفظ الغوث والقطب في حقّ البشر لم يَنْطِق به كتابٌ ولا سنة، ولا تكلَّم به أحدٌ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان في هذاْ المعنى، بل غِياثُ المستغيثين على الإطلاق هو الله تعالى، كما قال: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم) .

ولم يجعل الله أحدًا من الخلق غوثًا يُغِيث الخلقَ في كُلِّ ما يستغيثونه فيه، لا مَلَك ولا نبي ولا غيرهما. بل في الصحيحين أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا أُلْفِيَنَّ أحدَكم يأتي يومَ القيامةِ على رَقَبتِه بعيرٌ له رُغَاءٌ، فيقول: يا رسولَ الله أَغِثْني أَغِثْني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا. يا عباس عمِّ قد أَبلغتك".

وهذا كقوله : "يا فاطمةُ بنت محمد، لا أُغنِي عنكِ من الله شيئًا؛ يا عبّاسُ عمَّ رسول الله، لا أُغنِي عنكَ من الله شيئًا؛ يا صفيّهُ عمّةَ رسولِ الله، لا أُغنِي عنكِ من الله شيئًا، سلوني ما شِئتم". وهذا من تأويل قوله: (وأنذر عشيرتك الأقربين (214)) .

وقد يكون بعض الناس سببَا لشَر يَندفع في بعض الأمور، فيقال: فلانٌ يَستغيثُ بفلانِ، كما قال تعالى: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) . هذا كلفظ النصر والرزق والهُدى، فاللهُ هو الهادي النصير الرازق، وليس هذا النعتُ على الإطلاق لأحدِ إلاّ لله وحدَه، لا لملَكٍ مقرَّب ولا نبي مُرسَل. لكن من الخلق من يكون سببًا في رزقِ أو هُدَى أو نَصْرِ يَحصُل لغيرِه، وهو في ذلك سبب، لا يَستقِل بالحكم، بل لابُدَّ معَه من أسباب أُخَر، ولابُدَّ من مَوَانِعَ يَدفعُها اللهُ، وإلاّ لم يَحصُل المطلوب. وأما أَن يكون بشرٌ أو مَلَكٌ يُغِيث الخلقَ في كلِّ ما يستغيثونَ فيه بالله، فمن ادَّعَى هذا فهو أكفرُ من النصارى من بعض الوجوه، فإنّ أولئك قالوا: إنّ الله هو الذي يُغِيث، لكن زَعَموا أنِّه اتَّحدَ أو حَلَّ في المسيح، وهذا جَعلَ بعضَ المخلوقاتِ يَفعل ما يَفعله الخالق. ومن زعم أنَّ ثَمَّ غَوثًا يكون على يديه ما يُنزِله الله من هُدَى ونَصْرِ ورزقِ، فقد افْتَرى على الله، ليس ما ينزله الله في ذلك على عبادِه لشخص واحد.

ومن ضلال بعضِ هؤلاء أنهم يجعلون الغوثَ مقيمًا بمكةَ دائمًا.

فيقال لهم: مَن هذا الغوثُ الذي كانَ غِياثَ الخلقِ على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخُلَفائِه الراشدين، ولم يكن أحدٌ منهم مقيمًا بمكّةَ؟ ومن كان بمكَّةَ مَن هو أفضلُ من الرسولِ وخلفائِه؟ وهؤلاء من جنس قولِ الإفرنج في "الباب"، فإنهم يَدَّعون فيه نحوًا من ذلك.

وأما لفظ "القطب"، فما دارَ عليه أمرٌ من الأمور قيل: إنه قُطْبُه، كقطب الرَّحَا وقطب الفلك. فمن كانت له مرتبة من إمارةٍ أو علمٍ أو دينٍ فهو قُطبُ تلك الأمور التي دارت عليه، فالمَلِك قطبُ المُلْك، والوالي قُطب الوِلاية، ونحو ذلك. وقطبُ الدين الذي يُؤخذ عنه ولا يزاحِمه أحدٌ هو محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن الصالحين مَن يُجرِي الله على يَدَيهِ من الخير ما يكون قطبَ أمته.

وأما أن يكون للوجودِ قطبٌ يدورُ عليه أمرُه، به يَنزِلُ المطَرُ مطلقًا، وبه يَحصُل الهُدى مطلقًا، وبه يَحصُل النّصرُ مطلقًا، فهذا لا يكون لمخلوقٍ البتةَ، ولكن قد يكون من المخلوقين من يَحصُل به ما يَحصُل من نَصْر ورزقٍ وهُدًى، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وهل تنصَرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائِكم، بدعائهم وإخلاصهم وصلاتهم؟ " .

ومن كان تاركًا للصلاة مع قدرته على الصلاة فإنّه يُستتاب، فإن تاب وإلاّ قُتِل، وليس في هؤلاء من هو وليٌّ لله، بل فيهم من معه شياطين تُوحِي إليه بأشياء، وتُعاوِنه بأشياء، فيُخبرون ببعض الأمور الغائبة كما كانت الكُهَّان تُخبِر، ويتصرّفون في بعض الأمور بشياطينهم من جنس تصرُّف السَّحَرة، فتارةً يقتلون الرجل، وتارةً يُمرِضونَه، إلى أمور أخرى من جنس الحوادث، فيظنّ من لا يَعرِف حقيقةَ أمرِهم أنهم أولياء الله وأن هذه كرامات، وقد يكون في هؤلاء من هو كافر بالله. ومن هؤلاء من يُصلّي، ويكون له ذنوب كبائر يكون بها فاسقًا، وله شياطينُ تُعِينه. وطائفة ثالثة خيرٌ من هؤلاء، وهؤلاء فيهم خير ودين، وفيهم قلّةُ معرفةٍ بأمر الله ونهيه، يَقترِن بهم جنٌّ من جنسهم، فتارةً يطيرون بهم في الهواء، فيذهبون بهم إلى مكةَ، ويَقِفون بعرفات من غير أن يَحجُّوا الحج الذي أمر الله به ورسولُه، فلا يُحرِمون، ولا يُلَبُّون، ولا يجتنبون محظوراتِ الإحرام، ولا يُقيمون بمزدلفةَ، ولا يطوفون بالبيت، بل يُحمَلون في الهواء فيقفون بعرفات، ثمَّ يُحمَلون فيُصبِحون في بلدهم. وهذا من تلاعُبِ الشياطين بهم.

ومن ظنّ هذا من كراماتِ أولياء الله فهو جاهل، فإنّ هذا عملٌ محرَّم، ليس مما أمر الله به ورسولُه، فلا يحلُّ لأحدٍ أن يذهبَ إلى عرفات، فيَقِف مع الناس بثيابِه، من غيرِ أن يَحُجَّ الحج الذي أمرَ الله به ورسولُه. بل قد رُوي أن عمر بن الخطاب رأى بعرفات ناسًا عليهم الثياب، فأراد أن يعاقبهم عقوبةً بليغةً.

والقلم لم يُرفَعْ إلاّ عن المجنون، وليس كلُّ مَن رُفِعَ عنه القلم يكونُ وليًّا لله، بل من المجانين من يكون يهوديًا ونصرانيا ومشركًا، فلا يكون وليًّا لله وإن رُفِع عنه القلم، بخلافِ من كان مؤمنًا بالله وبرسوله وله صلاحٌ ودينٌ، فأصابَه خَلْطٌ أفسدَ مزاجَه، فهذا إذا غابَ عقلُه رُفِع عنه القلم، وإذا صَحَا تكلَّم بكلامِ أهلِ الإيمان، و [له] قلب يحبّ الله ورسوله ويحبّ ما أحبَّه الله ورسوله.

وأما من اقترنتْ به الشياطينُ، وغيَّبتْ عقلَه في بعضِ الأحوال، فهذا قد يتكلم الشياطينُ على لسانِه بالإثم والعُدوان، ويُبَغِّض إليه ما يحبُّه الله من الطهارة والصلاة والقرآن، ويُحبِّبُ إليه ما يُبغِضُه الله من الكفر والفسوق والعصيان. ومن علاماتِ هؤلاء أنه لا يَحصُلُ لهم الخوارقُ عند أفعالِ الخير التي يحبُّها الله ورسوله، كالصلاة والقراءة والذكر والدعاء وقيامِ الليل، بل إنما يَحصُل إذا أشركوا بالله، فاستغاثوا ببعض المخلوقين، أو عاشروا النسوانَ والمُرْدَانَ معاشرةً قبيحةً، أو حَضَروا سماعَ المُكَاءِ والتصدية، وإذا اجتمعت المحرَّماتُ كانت أحوالُهم أقوى. فهذا مما يُبيّن أنهم من حزبِ الشياطين وأوليائه، لا من حزب الرحمن وأوليائه، قال تعالى: (وَمَن يَعشُ عَن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين (36) وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37) حتى إذا جاءنا قال ياليت بينى وبينك بعد المشرقين فبئس القرين (38) ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون (39)) .

وأما الذين يسمونهم الناس رجالَ الغيب، كالذين يظهرون بالأماكن التي ليس فيها جمعة ولا جماعة ولا آثار الرسالة، بل يظهرون في الأماكن التي ينفرد بها بعضُ الناس عن الجمعة والجماعة، إمّا جبلٌ من الجبال، كجبل لبنان وجبل الفتح وجبل الأحبس وغير ذلك من الجبال، وإمّا مَغَارةٌ من المغارات، كمغارة الدم، وإمّا غيرها، وإمّا غير ذلك من المواضع التي لم يأمر الله ورسولُه بقصدِها للعبادة، وإنما يَقصِدها الجهّال. فهؤلاء هم من الجنّ والشياطين، وقد سمّاهم الله رجالاً، كما قال: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً (6)) . والكلام على هؤلاء وتفصيل أحوالهم وما عرفناه من هذه الأمور يَطولُ ، وهذا مقدار ما وَسِعتْه هذه الورقة."اهــ