آخر المواضيع

الأربعاء، 23 ديسمبر 2015

لهذه الأسباب لا نُساندُ أردوغان في أزمته مع روسيا




لهذه الأسباب لا نُساندُ أردوغان في أزمته مع روسيا

الكاتب : عبد الجليل مبرور

لا شك أن الكل يعلم أن العلاقات التركية الروسية في الآونة الأخيرة، قد شهدت أزمة دبلوماسية كبيرة، نتيجة إسقاط تركيا للطائرة الروسية، هذه الحركة من الجانب التركي قد أثارت عدة موجات من ردود الأفعال، وأشعلت مواقع التواصل الاجتماعي خصوصا في العالم الإسلامي قاطبة،  فاعتبرتها الأغلبية الساحقة  من المتابعين كانتصار للجانب التركي ورأوا فيها استعادة تركيا لمجدها ودورها القيادي في الأمة، وأصبحوا يرون في أردوغان البطل القومي والعربي بل والإسلامي، وصاروا في حالة ترقب لتصريحات كل من الطرفين التركي والروسي، تماما كمشجعي فريقي الريال والبارصا، لكن نحن في هذا المقال، لن نكون في صفوف أي من مشجعي الطرفين، وإنما سنحاول الجلوس في منصة المراقبين كي نتجرد قدر الإمكان من العاطفية التي تؤثر حتما في اتخاذ وصناعة القرار المناسب، وأيضا كي نميل إلى ما يقرره العقل والحكمة، لا ما يقرره القلب.
وابتداءً، فالذي لا يعلمه كثير من الناس، أن تركيا تُحاك ضدها العديد من المؤامرات، قصد هدمها والحطّ من مكانتها الجيوسياسية وإرجاعها كدولة هامشية تماما، كما فُعل بكل من العراق وسوريا ومصر وليبيا، لهذا قبل ملاحظة ردود الأفعال، فيجب طرح أهم سؤال وهو : من هو المستفيد من الأزمة التركية الروسية؟ هل تُركيا هي المستفيدة أم جيرانُها؟ ومن هم هؤلاء الجيران الذين تُشكّلُ لهم تُركيا مصدر إزعاجٍ وقلقٍ دائمين؟ 
فيجب أن نعلم أن خيوط اللعبة السياسية العالمية اليوم، تسير وفق نظرية القوة الناعمة، التي يلخصها صاحبها وهو جوزيف ناي مستشار الرئيس أوباما للشؤون الأمنية والدولية بقوله : 
" القوة في العلاقات الدولية ثلاثة أنواع وأشكال، القوة الاقتصادية والقوة الصلبة العسكرية ، والقوة الناعمة الإعلامية والدبلوماسية والثقافية، وهذه القوى لا تنفصل عن بعضها، فالقوة الصلبة لا تنفصل عن القوة الناعمة، ولا تنفصل عن القوة الاقتصادية، فهي تشكل أبعادا وزوايا القوة والتفوق والهيمنة والسيطرة في السياسة الدولية لأي كيان، وينبغي لمن يتصدى للعمل في الاستراتيجيات والسياسات الدولية، أن يعرف أن جدول أعمال السياسة الدولية قد أصبح اليوم مثل لعبة الشطرنج ثلاثية الأبعاد، لا يمكن الفوز بها إلا إذا لعبت بطريقة عمودية وأفقية، وأن مشكلة بعض اللاعبين والزعماء، أنهم لا يستطيعون اللعب إلا في اتجاه واحد، أي إما إعلان الحروب العسكرية، أو فرض العقوبات الاقتصادية" اهــ
وطبعا بأدنى نظرة إلى الخريطة، سنجد أن تُركيا تقع بين فكّي كماشة، فجيرانها هم الاتحاد الأوربي وإسرائيل، كما يرمقها من بعيد راعية هؤلاء الجيران وهي الولايات المتحدة الأمريكية، كل هؤلاء بدأوا يرون في تركيا أنها تخطت دورها، وباتت تفرض نفسها اقتصاديا وسياسيا كلاعب أساسي وليس كورقة لعب، وهذا ما جعل أردوغان يُصرّحُ في خطاب بجامعة اسطنبول والذي بثته قنوات التلفزيون في أكتوبر/ تشرين الأول 2014، بأن "لورنس كان جاسوساً إنجليزياً متخفياً في زي عربي ... هناك ’لورنسات’ جديدة متخفية في أزياء صحفيين ورجال دين وكتّاب وإرهابيين ... كل صراع في المنطقة تم تصميمه قبل قرن من الآن". 
 والغريب أن أردوغان رُغم إدراكه لطبيعة هذه المؤامرات، فقد اختار خيار المواجهة الغير محسوبة العواقب مع روسيا بدلا من توطيد العلاقات معها، وهي التي تُعتبر كأحد أشرس أعداء هؤلاء الجيران، بل وتُصنفها الولايات المتحدة الأمريكية بالعدو الأكبر، كما وصفتها وزيرة القوات الجوية الأمريكية ديبورا لي جيمس بقولها: "أعتبر روسيا التهديد الأكبر" ونشر أيضا البنتاغون ذلك في عقيدته العسكرية الجديدة والتي جاء فيها عن الجيش الروسي بقوله : "يقوم بزعزعة الأمن في المنطقة بشكل مباشر أو بالوكالة"
وكأن أردوغان ليس أمامه سوى هذا الخيار،  الذي إن تطور فسيُدخله في حرب مباشرة مع الدبّ الروسي، وهذا ما صرح به مؤخرا رئيس الحكومة الروسية ميدفيديف على شبكة التلفزيون الروسي، حيث قال إن : "الحرب أسوأ ما يمكن أن يحدث، ولهذا قررنا ألا نعطي الرد المماثل على الأتراك الذين انتهكوا القانون الدولي وقاموا في الواقع بالعمل العدواني ضد بلادنا، وأعطوا الذريعة لبدء الحرب".
ونفس الشيء أكده السيناتور إيغور موروزوف، عضو في لجنة مجلس الاتحاد للشؤون الدولية، حيث قال في مقابلة مع "روسكايا سلوجبا نوفوستي": "إن أردوغان لم يكن ليقرر ذلك بنفسه، من دون أي إشارات أو أن تعطيه واشنطن الضوء الأخضر، ومن هذا المنطلق فعلينا أن نفترض ما هي الخطوات التالية التي ستقوم بها تركيا".اهـ
وهذا يؤيده أيضا، ما نشره موقع ويكيليكس من كون أردوغان كان يُخطط لذلك منذ مدة، وأيضا يؤكد ذلك قيام أردوغان بزيارة مباشرة إلى أمريكا بُعيْد إسقاط الطائرة، لدرجة أن الرئيس الروسي بوتين قد استهزأ من زيارة أردوغان واصفا إياه بأنه فعل كما لو أن روسيا هي من أسقطت طائرته !
وليس هذا فحسب، بل سيُضطر كيري وزير خارجية الولايات المتحدة إلى التفاوض عن تركيا في زيارته الأخيرة لروسيا.
وكما هو معلوم فحرب روسيا مع تركيا، لن تكون بطبيعة الحال حربا عادية وتقليدية، بل ستكون حربا مدمرة وكارثية، فروسيا لن تصبر على حرب تقليدية مطولة مع تركيا، لأن تركيا ليست هي "داعش" وليست بالدولة الهينة، فقدراتها العسكرية زيادة على دعم الناتو، سيجعلان منها خصما عنيدا، فلذلك ستعمد روسيا إلى تقليم أظافر تركيا بسرعة خوفا على بنيتها التحتية، وهذا ما دفع حلف الناتو إلى دراسة رد الفعل الروسي، حيث نقلت صحيفة "Welt am Sonntag" عن دبلوماسي رفيع في حلف الناتو أن وزراء دفاع دول الحلف سيبحثون الاستراتيجية النووية الروسية خلال اجتماعهم منتصف الأسبوع الجاري. مشيرة إلى أن المشاركين في الاجتماع يرغبون في تحليل كيف يمكن أن يستخدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين السلاح النووي في مواجهة مع الغرب، وما هي إمكانيات روسيا، وما مضاعفات ذلك على الناتو، وأن حلف الناتو قلق للغاية من البرنامج النووي الروسي.
وقد ألمح فلاديمير بوتين شخصيا إلى هذا الأمر وفق المثل القائل : إيّاك أعني واسمعي يا جارة، عندما أطلعه وزير دفاعه على نجاح تجربة قصف مواقع "داعش" في الرّقة بصواريخ "كاليبر المجنحة"  والموجهة من غواصة "روستوف"  من أعماق المتوسط، حيثُ عبَّر عن أمله في "ألا يتم تزويدها برؤوس نووية، لأن أداءها بالرؤوس العادية يكفي" لتطيير رقاب الإرهابيين، ويستثني الحاجة لتزويدها برؤوس نووية"اهــ 
وقد نشر مؤخرا موقع "ويكيليكس" أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعطى شخصيا الأوامر بقصف القاذفة الروسية فوق سوريا، وأن من مصلحته جعل تركيا على حافة الحرب مع روسيا لثقته بأن حلف الناتو ومجموعة العشرين سيؤيدونه بأية حال.
والحقيقة أن أردوغان مُخطئ  في ذلك، لأن الناتو يفهم جيدا قواعد هذه اللعبة، وغير مستعد تماما لتوسيع رقعة الحرب لسواد عيون أردوغان، فقد أعلن مندوب روسيا الدائم لدى الناتو ألكسندر غروشكو أن الحلف يشعر بأن تصرفات تركيا في حادث إسقاط الطائرة الحربية الروسية قد تؤثر سلبا على مصالح الحلف نفسه.
وهذا يتناسق مع ما عبر عنه مندوب فرنسا في الناتو في اجتماعهم بلهجة شديدة، منبها أن  أعمال تركيا تنسف عملية تحالف مكافحة الإرهاب ضد "داعش"، بل منهم من طلب من مندوب تركيا معلومات حول هدف قيام تركيا بإسقاط الطائرة الروسية وما هو التهديد الذي كانت تمثله؟ !
لذلك فلو ابتلعت روسيا الطعم، وقامت برد آنذاك، فاندلاع الحرب عند الناتو معناه أنه يجب أن تكون في مسرح واحد، وهذا يعني أن أرض المعركة ستكون حتما هي تركيا-سوريا، والإجراء الذي سيقوم به، هو دعم تركيا بالأسلحة النوعية، كي تظل فقط ساحة الحرب هي الأرض التركية السورية، وأي رد روسي سيكون بناء على مصدر الصواريخ فقط، فالمطلوب حرب تركية روسية تستنزف البلدين، وليس حرب عالمية ثالثة، فهذا مستبعد حاليا، لأنها ليست في صالح الطرفين، لا الناتو ولا روسيا، وهنا تتجلى الكارثة، وهي أن تركيا قد تتعرض إلى دمار هائل جراء الأسلحة النوعية الروسية، والتي حتما لن تكون تقليدية.
بل وحتى في حالة وقوع السيناريو الثاني الذي هو عدم نشوب الحرب، فعلى الأقل سيستفيد الناتو من فصل تُركيا وعزلها عن روسيا التي تربطهما علاقات اقتصادية هامة، وأرقام معاملات ضخمة، كان يُتوقع أن تصل إلى مئة مليار دولار مستقبلا، زيادة على كون تُركيا تستورد قرابة 60 بالمئة من الطاقة من روسيا، فلو خسرت تركيا مصدر الطاقة الروسي، فهذا سيؤثر على استقلالها السياسي، حيث ستصبح تابعة للخليج سياسيا لقاء سده الثغرة الطاقية التي ستُخلفها روسيا.
فقد كتبت الصحيفة الألمانية Tagesschau أن الكثير من المواطنين الأتراك قلقون من إمكانية وقف روسيا توريد الغاز إلى تركيا ما سيضع البلاد في حالة مزرية، منوهة إلى أن أنقرة تشتري من روسيا 60% من الغاز.
وفي حال إيقاف توريد الغاز فستبقى عشرات الآلاف من المنازل دون تدفئة.
أما الخبراء الأتراك فيُحاولون التخفيف من قلق السكان، مراهنين على كون سياسة الطاقة الروسية لا تتماشى دائما مع نهج السياسة الخارجية.

كما نضيف أن روسيا تمتلك أوراق ضغط أخرى، خصوصا دعم الأكراد التي تشكل حساسية كبيرة لتركيا.
فمن خلال ما سبق، يتبين أن انعكاسات إسقاط الطائرة الروسية واضحة ولا يمكن الاستهانة بها، ومسألة اختراق الأجواء ليس بالحدث الذي يستوجب الدخول في حرب مدمرة، فمثلا بعد هذه الواقعة، قامت روسيا بجس نبض مماثل باختراق الأجواء الإسرائيلية، لمسافة ستة كيلومترات، ولم تقم إسرائيل بإسقاطها، لأنها تعرف يقينا أن المنطقة تغلي، وأن هذا الغليان يجب أن يكون في تركيا، أيضا ذكرت قناة "سي إن إن" أن مقاتلة روسية حلّقت فوق سفن الناتو في بحر البلطيق، وأنها كانت لبرهة على ارتفاع 152 مترا من إحدى السفن، ولم يتم إسقاطها،  كما أعلنت في حادثة أخرى أن مقاتلة روسية على مسافة 3 أمتار من طائرة استطلاع أمريكية فوق البحر الأسود.
هناك العديد من الحوادث الاستفزازية، لكن لا تنتهي إلى نفس النتيجة التركية، صحيح أن لتركيا عدة حسابات ومصالح من الأزمة السورية، والمتاجرة بهموم وآلام الشعب السوري، فالأمر لا يعدو أن يكون إلا نوعا من الماركتينغ لإيجاد الأسواق والانضمام إلى الاتحاد الأوربي من خلال العزف على وتر وقف اللاجئين السوريين ، فمن مصلحتها تأجُّج الوضع في سوريا، فمصائب قوم عند قوم فوائد، غير أن هذا لا يعني أن يغامر أردوغان بتركيا التي أصبحت كقوة إقليمية اقتصاديا، وأن يقامر بها ليدخل بها حرب استنزاف قد تُرجع تركيا إلى مصاف دول العالم الثالث.
فالأزمة السورية جد معقدة، ولن تُحلّ على طريقة الحرب بالوكالة القائمة الآن، وإنما التسوية السياسية هي الحل الأمثل، وهذا ما استفز نائبة من حزب اليسار في البرلمان الألماني، فصرحت بلهجة شديدة قائلة :" كان من الأجدر حث أردوغان على إنهاء لعبته القذرة عوضا عن قصف سوريا" ثم أضافت هذه النائبة اليسارية :" أنه من الفضيع أن تتواصل عملية التهريب حتى يومنا هذا عبر الحدود التركية، مشيرة إلى أن زهاء 100 مقاتل جديد ينظمون كل ليلة إلى "داعش" عبر هذه الحدود."
وختاما  فنحن لا ندعم لا الطرف التركي ولا الطرف الروسي ولا حتى النظام السوري، وإنما ندعم الشعب السوري، فكل هؤلاء يتحملون مسؤولية ما آل إليه وضع الشعب السوري من تشريد وتجويع وتنكيل ودمار باسم الحرية. فلهذه الأسباب لا ندعم أردوغان في تحركه الأخير الذي سيجعل من تركيا أرض حرب ودمار، كما فُعل بسوريا، فيكفي تحطم سوريا إلى أشلاء، حتى صارت أطلال دولة، فتركيا مهما تقدمت اقتصاديا، فليست في مستوى روسيا عسكريا، فهي تماما كالنملة التي تسبّ فيلاً، بيد أننا لا نريد أن يدهسها الفيل. 
وأما جمهور المتعاطفين، فإن كانوا الآن يتصايحون أن تركيا أهانت روسيا، فهم لا يعلمون أنه عندما سيحمى الوطيس، فلن ترى لهم إلا منشورات يتشاركونها على الفيسبوك تدعو الناس إلى الإكثار من الدعاء للاجئي تركيا !
 فلذلك نعارض أن تدخل تركيا حربا بالوكالة وأن تصبح حلَبة مأجورة تُمارس فوقها لُعبة الأراجوز، فمن كانت عنده مشاكل مع روسيا فليُصفّها معها مباشرة !